تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أعمدة من ورق «12»

ثقافة
الثلاثاء 16-2-2010م
أســــــــــعد عبـــــــــود

وأنا أكتب لكم، عُدت إلى أول عدد من الثورة نشر فيه اسمي.. عدد 10/8/1965.. عدد جميل في أعلى صفحته الأولى المانشيت التالي:

نتائج امتحانات الدراسة الثانوية «علمي – أدبي» في جميع المحافظات.‏

من يومها حفظت ذاكرتي أن أندونيسيا «أحمد سوكارنو» تؤيد الصين في سياستها إلى درجة أنها تحدثت عن انسحاب من الأمم المتحدة التي عزّ على الصين حتى ذاك الوقت أن تدخلها، ومانشيت الصحيفة يتساءل بالأحمر:‏

هل تفجر أندونيسيا قنبلة نووية؟!‏

الافتتاحية أيضاً تطرح تساؤلاً عن جنوب شرق آسيا والسلام.. منذ ذاك التاريخ لم تعرف آسيا السلام.. وما زالت كل خيارات الحروب والدمار تتحداها.. كل من يتابع يعلم.. لكن آسيا لا تعلم..‏

ورقها الأصفر أشجاني.. ربما بكيت حباً رغم أن علامات الثانوية العامة خذلتني..‏

اليوم إذ أتصفح العدد يبدو لي الخذلان ليس هناك فقط.. بل وأنا المعتز بذاكرتي الستينية اكتشفت من قائمة الناجحين من ثانوية ابن خلدون الفرع العلمي.. أنني نسيت الكثير من أسماء رفاق صفّي.. مع أنني حتى اللحظة أشعر وكأنني في الشعبة نفسها.. إلى جانبي زياد القيسي.. وورائي سامي شوشرة وعلى يساري رياض قصيباتي.. وفي المقعد الأخير حارث السيد.. ومعنا في الصف شقيقه جحدر.. وكثيرون أتذكر أسماءهم ووجوههم... لكن.. بكل أسف يبدو لي أن الذين لم أتذكرهم أكثر من الذين تذكرتهم.. لعله تعدد الشعب واختلاف اللغات.. والناجح والراسب..‏

فيما بعد سأسمع ممدوح عدوان يقول: ليس من جريدة أترقب أن أتصفحها قبل الثورة.‏

هذا الورق الأصفر من ذاك العام يحمل يومياً أسماء الرواد وفي مقدمتهم ممدوح عدوان وقد أبكرت على حفظ اسمه وتتبع مقالاته.. وقد كَبُر وكبر به الزمن.. ورحل.. ولم يضطر يوماً للتكبر على يوميات الحياة السورية.. ريف.. مدينة.. أشخاص.. صحف.. فن.. أدب.. لم تضطره ثقته العالية بنفسه لعشق الغرباء كي يتغرب.. كان جريئاً في النقد، جريئاً في الحب.. هكذا أزعم.. وكنا زملاء وأصدقاء ولم نكن حميمين، فليعذرني من ينصّب نفسه كأنه الفلقة الثانية من الحبة.‏

عدم انتمائي الحزبي وعدم ارتباطي السياسي بنظام حزب البعث العربي الاشتراكي الذي بسط سلطته على المجتمع والدولة في تلك الحقبة لم يمنعني من هواجس واضطراب الروح خوفاً على «الثورة».. النظام السياسي والجريدة..‏

كان عام 1965 ومطلع 1966 مسكوناً بالهواجس والاحتمالات.. والشارع أهم صحفي ناشر للأخبار.. حيث كانت تصمت الثورة وشقيقتها البعث تاركة للهواء أن يشرّق ويغرّب علّها تهدأ العاصفة.. كان الكلام يشرّق ويغرّب علّه يكتشف الحقيقة.‏

كانت الأحداث خاصة وسرّية لكنها لا تخفى على أحد.. إلا على الصحف.. ومازال الصحفيون في الثورة حتى اللحظة يتهمون بالعجز.. لأنهم لا يشرّقون ويغرّبون وينتظرون أن تهدأ الحقيقة على بيان صحيح.‏

مؤتمر استثنائي للحزب وقطرية جديدة.. وغياب وجوه محددة يشير إلى غياب تيار..‏

تشكيل مجلس وطني ليتولى السلطات التشريعية يتحدث عن سيطرة تيار.‏

مؤتمر قطري استثنائي وقيادة قطرية جديدة تعلن عن اصطفاف محدد.‏

تشكيل مجلس رئاسة جديد وغياب وجوه وقدوم وجوه.. والصراع أكيد..‏

ثم وزارة برئاسة الدكتور يوسف زعيّن لا تترك مجالاً بأن الشارع يعرف أكثر من «الثورة» لكنه لا يستطيع أن يثبّت الوزراء على حقائبهم كما هي الثورة.‏

كل ذلك، والأحداث حبلى بالتطورات.‏

كنت أحمل البكالوريا.. وأستعد لناجح ويعيد.. وأعرف كل ما يجري.. لكن ذلك كله لا يمنع أحد الأوصياء الموروثين عن أن يذكرني بأن ألتفت إلى دراستي كلما جلست كأنني أسترق السمع إلى نتف الحديث عمّا يجري.‏

- لماذا لا تنشروه؟!‏

< أين؟‏

- في الثورة..‏

< مجنون أنت..‏

- لماذا؟‏

< ثلاثة أرباع ما تسمعه حديث غير صحيح.. بل أكثر من ثلاثة أرباعه.‏

- إذاً انشروا أنه غير صحيح.‏

< ننشر..‏

- أين؟!‏

< بين السطور.. عليك أن تقرأ بين السطور.. طالما أن الجريدة تنشغل بيوميات الحياة فإن ذلك يعني أن ما يقال غير صحيح.‏

سكتّ.. لم أصدقه تماماً.. لكن.. ليس لدي غير الشائعات.. عندما جابهت عبد الحميد بأن يقرأ ما وراء السطور.. قدم لي ذاك الخبر:‏

في أحد الأعداد من الثورة.. نشر خبر مؤتمر قطري استثنائي وقيادة قطرية جديدة في زاوية مهملة بخط صغير دون أي عنوان والخبر وأسماء أعضاء القيادة لم تتجاوز بضعة سنتيمترات على عمود.‏

ثم قال:‏

< صحيح يجب أن تقرأ ما بين السطور وما وراء السطور.. لكن.. لتعرف وليس لتنفي.. ما رأيك بهذا الخبر؟..‏

- ماذا؟.. ما به؟!‏

< يا صديقي لو لم يكن صراعاً مراً فهذا خبر يأخذ..رأس الصفحة والمانشيت والافتتاحية.. ووجوده هنا يعني أن جريدتك استجابت للتحدي..‏

- تحدي من؟‏

< تحدي الصراع.. لقد أمرت ألا تنشر.‏

- ممن؟!‏

< من أحد أطراف الصراع..‏

- لكنها نشرته.‏

< على استحياء‏

- وليكن.‏

< هذا نشرته على استحياء وغيره لم تنشره، وما خفي كان أعظم.‏

- تنشر ما تتأكد منه.‏

< مبدئياً هذا صحيح لخدمة الحقيقة.. لكن.. قد يسبقها الزمن.‏

وأردف:‏

يجب أن تعمل فيها.‏

أحسست برغبة في الجفاء.. ثم أدركني شعور إحباط، إذ إنها قصة حب أخرى من طرف واحد.. نحب.. نعشق.. ونجافي.. والطرف الآخر لا علم له.‏

هل كانت «الثورة» تعلم شدة تعاطفي معها في مواجهة الظلم الذي ما زالت تتعرض له؟‏

a-abboud@scs-net.org

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية