تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


بحثاً عن ميراث عربي للنيتشوية

كتب
الأربعاء 5-8-2009م
أحمد علي هلال

هل تنطوي «النيتشوية» كفلسفة وفكر على تاريخ مضاد، بكل ما يتضمنه ذلك التاريخ، من مفاصل وانعطافات مثيرة، تجعل من رمزها الأشهر الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة، سؤالاً كبيراً،

مازلنا نقاربه ومن مواقع شتى، وزوايا نظر مختلفة، لنحظى بفهم ممكن، وربما كلي لصيرورة فيلسوف إشكالي في وجوده وفكره، حتى إنه لينتصب تأويلاً مجسداً (لحمى التاريخ)، التي عرفتها أوروبا خلال القرن التاسع عشر!‏

وفي المقابل، فإن «النيتشوية» بكثافتها الجدلية، التاريخية والمعرفية، شكلت فكراً جاذباً وطارداً في آن، بدءاً من دائرته، إلى دوائر واسعة، بمعنى أن انتقالها -كفلسفة معاصرة-بثيمتها العدمية إلى الفكر العربي، قد يستبطن أسئلة أكثر غوراً، تتصل بدرجة من درجات التأويل، لا التأثر فحسب في كتابه الجديد «الإرادة والتأويل، تغلغل النيتشوية في الفكر العربي، يضعنا الباحث والناقد الجزائري جمال مفرح أمام حقيقة «صراع» نيتشه مع ممثلي عصره أقطاب الحداثة الفكرية وبمنهج يستقرىء الظاهرة النيتشوية، بل يذهب في تعليلها بتتبع مساراتها وتوترها، وكثافتها الدرامية، إذ ينضوي كتابه على مداخلتين تتسمان بالوضوح المنهجي، والتحليل والتركيب، الأولى: نيتشه في مواجهة خصومه، والثانية: تأثير نيتشه على المفكرين العرب.‏

ولعل الطابع الفلسفي الخاص، ما يشي بدأب الكاتب- مفرج- على استجلاء لحظات نيتشه والانفتاح على عدمية ثرية،‏

دون الاستغراق في محاكمتها وفقاً لتصورات مسبقة، أي وعيها في سياقها التاريخي لاشتاق دلالة ناجزة، تقرأ أبعاد زرادشت بوصفه ممثل شخصية نيتشه الرئيسية، نيتشه الذي أعجب فيه هيدغر وماركوز وفوكو وغيرهم، فهل يعود أكثر قوة من خلال جيل من النقاد والفلاسفة الكبار يتساءل الكاتب، وهو يعود إلى نيتشه في أبحاثه ودراساته التي استهوت الفلاسفة، وأيقظت فيهم الحنين إلى المغامرة الإغريقية، ولاسيما كتابه: أصل الأخلاق، وهكذا تكلم زرادشت، وصورة نيتشه في الخطابات الفلسفية الغربية والأوربية فقد ألف نيتشه عدة دراسات حول ديوجين لايرت، وألقى عدة محاضرات حول الفلاسفة الذين سبقوا سقراط، وكتب مقدمة لدراسة المحاورات الأفلاطونية، أعد دراسة وجيزة بعنوان نشأة الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، وعني بمسألة الأصول والهوية الأوربية في صميم أبحاثه عن الإغريق، وهو تحت تأثير الدراسات الخاصة بالأديان والأفكار الفلسفية الشرقية التي انتشرت في القرن التاسع عشر فالشرق هو الموطن الذي انحدرت منه الثقافة اليونانية، وهو منبع الحكمة التي نهل منها الإغريق، يعترف نيتشه بذلك ويضيف إن أثينا تمثل طفولة أوروبا، الشرق الذي أعجب جوله ميشليه كاتب ملحمة الرامايانا الهندية، وأعجب تولستوي وشوبنهاور وفاغنر، وسواهم فهل يعود ارتباط نيتشه بالفلسفة الشرقية وكثافة الحضور البوذي في تأملاته، لاعادة الدور الذي لعبته اليونان وأوربا؟ يقول نيتشه إن الإغريق استطاعوا أن يوغلوا في البعد، لأنهم عرفوا التقاط الرمح من حيث تركه شعب آخر ولكي يلقوا به إلى أبعد.. وبرأيه إن الاصطدام بين الثقافة الشفاهية في التاريخ الإغريقي والكتابة كانت على يد أفلاطون وأرسطو إذ يبدي نيتشه آراءه في سقراط وأفلاطون وهيجل وكانط بوصفهم مسؤولين عن اشاعة قيم الانحطاط، فسقراط وضع الغرائز والعقل على طرفي نقيض، وهو نموذج للمفكرين الذين يسيطرون على الحياة بوساطة الفكر أو العقل ويلقي عليه تبعة انحلال الثقافة اليونانية فهو نموذج المصارع ضد النبلاء، وأفلاطون يحتقر الواقع، وكانو مسؤول عن الانقلاب الخطير في القيم الأخلاقية عن طريق تحويله للقيمة الأساسية للعمل من نتائجه إلى أسبابه، أي تحويل قيمة العمل إلى قيمة للنية، وبمعنى آخر فقد رفض نيتشه الأخلاق الكنطيه التي تمثل احدى المرجعيات الكبرى للأخلاق الفلسفية في العصر الحديث أما هيجل، فالمعركة استعارية ضد أساتذة الفلسفة الألمان، فهيجل يمثل المثالية الألمانية بوصفه رجلاً لاهوتياً متنكراً، فضلاً عن هجاء نيتشه للتاريخ الوضعي الحديث كعلامة على انحطاط ثقافي فغاية العلم هي المتعة والسعادة للانسان كما يقول نيتشه، وهو ينطلق في نقده من دوافع الشك في الماضي والعلم الحديث، ونظرته للأديان والمنهج الجدلي، وفهمه للحياة كفيلسوف مضاد.‏

يمكن له أن يجتذب باحثين ومفكرين وفلاسفة عرباً من أمثال سلامة موسى وفرح أنطون وعباس محمود العقاد وعبد الرحمن بدوي وحسن حنفي وهشام شرابي، الذين تأثروا بفلسفته وبحثوا عما يشبهها، هل لجدارة نظرية، أن تحتل ذرائع لاصلاح العالم العربي المتخبط في التقاليد البالية، وكوسيلة تفتح أمام الفرد آفاقاً واسعة في مجال القوة وتحرير الحياة من المسكنة والذل، لقد شكل نيتشه لمعجبيه أو منا هضيه في الفكر العربي دعوة للبحث عن حقيقة غير محدودة- كما يقول الكاتب، من موقع التردي والانحطاط، ،إلا فما معنى الإنتاج الفلسفي المكرس لنيتشه وأعماله في تسعينات القرن المنصرم ؟‏

ليست الدلالة في كثافة الترجمات، ولكنها في تلك المقدمات الاختزالية المعممة التي صدرت بها الكتب، فهي استبطنت دوافع كتابها، دون وعيهم أحياناً للسياق الفكري وللطبيعة الخاصة التي حكمت فلسفة نيتشه بثوابتها «ارادة القوة، والحياة المتدرجة نحو السمو، وتحدي الأفكار المعتمدات والقيم في عصره وهكذا...‏

فمثلاً يكتب هشام شابي لأستاذه (براجتراسر) أن يحتذي بأسلوب تدريه نيتشه، أراد منه أن يكون من اتباعه في أسلوبه، ويبرز الناحية الوجودية من حياته- عذابه، مرضه ووحدته القاسية ليشعل نار الفلسفة في قلوب الطلبة، ورفع الشعلة التي تضيء فلسفة نيتشه كلها، هو الشرط الأساسي لتفهمه كفيلسوف وشاعر ونبي، لكن براجسترسر ذهب إلى أبعد من ذلك في رده على شرابي ليبين له حاجة المثقف لاتخاذ مواقف فكرية معينة، ومهمة الجامعة في تزويده بأدوات الفكر والتحليل،‏

فما هو المطلوب لا يتجاوز الحياد الموضوعي.. ليتحول أثر رد هشام شرابي فكرياً ومعرفياً، لكن أستاذه يعود إلى نيتشه بطريقته مستظناً قول نيتشه في هكذا تكلم زرادشت لا إنني أطلب رفاقاً يتبعونني، لأنهم يريدون أن يتبعوا أنفسهم. صحيح أن فلسفة نيتشه هي صورة نفسه القلقة وثقافته الرومانتيكية وتجربته المؤلمة، حسب الكاتب، لكنها في المقابل صورة حراك فكري وسياسي وأخلاقي شغلت ألمانيا وأوروبا طويلاً، لتقف على تأويل لكلمات نيتشه، الذي اعتبر أن وراء المعاني درجة صفر المعنى وبأن استعمالنا للغة يوقعنا في حبال الميتا فيزيقيا، ويقول فوكو: إن نيتشه «كان يتقصى عصور الانحطاط وينظر من أعلى» تلك العدمية الثرية -اذناً- قد تواترت في الفكر النقدي الغربي بأشكال ليس آخرها التفكيك، والحفريات، وفلسفة أن العالم هو صيرورة وتعدد وتناقض وثراء‏

الكتاب:الإرادة والتأويل- تغلغل النيتشوية في الفكر العربي - الكاتب: جمال مفرج - الناشر: منشورات الاختلاف- الدار العربية للعلوم- ناشرون -الجزائر-بيروت - الطبعة الأولى: 2009‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية