تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


غصن ريحان لشفيق الحوت

كل أربعاء
الأربعاء 5-8-2009م
سهيل ابراهيم

اغمض شفيق الحوت عينيه على غبار الزمن الذي ركض في دروبه عقودا وعقودا دون ان يصل، فالرجل فيما يبدو كان طموحا اكثر مما يجب،

وكان حالما اكثر مما يستطيع العمر على تجسيد حلمه، فمن طلب فلسطين وقدسها وعروبتها فيما مضى من الزمن، كان مسكوناً بالاوهام، منذورا للعلة التي قتلت شفيق الحوت، واخلت مكانه بين جيل القادة التاريخيين للنضال الفلسطيني منذ نكبة عام 1948.‏

ظل وفياً لحلمه حتى يومه الاخير، يوقظ الروح في الجسد الثقافي الفلسطيني، ويبتكر مفردات للمقاومة لم يعرفها الكتاب الفلسطيني من قبل، يتأمل من نافذة مكتبه في بيروت طريق الجنوب اللبناني الموصل الى تراب فلسطين، ويحصي عدد الشهداء الذين مشوا عليه ذهابا وايابا، محملين بالسلاح والذخيرة، او محمولين في اكفان بيضاء واعلام ملونة، عائدين على اعناق رفاقهم ليلهبوا غضباً جديداً وثأراً جديدا في وجدان اجيال توالت على العبور من طرق الجنوب نحو السياج الشائك على بوابة فاطمة!‏

لم يرض ان يكون فتحاويا كما آلت اليه حركة التحرير الفلسطيني اليوم، ولا حمساويا كما آلت اليه حركة المقاومة الاسلامية اليوم، بل ارتضى لنفسه ان يبقى قائدا فلسطينيا من طينة اولئك القادة الكبار الذين لا يعرفون ولا يدينون الا لفلسطين، قبل الفصائل وبعدها، وقبل الانشقاق وبعده وقبل الحوار الفلسطيني المتشنج وبعده!‏

اغمض شفيق الحوت عينيه على مشهد لم ينتسب يوما اليه، ولم يسع اليه، مشهد فلسطيني مفجع يحتجز فيه الفلسطيني فلسطينيا اخر لدواعي الامن في رام الله، فيجرده من سلاحه ، ويعفي الاحتلال من مهمة اعتقاله، وفي مكان آخر يمنع الفلسطيني فلسطينيا آخر من الخروج من حصار غزة الى بيت لحم لتدشين مؤتمر فتحاوي مجهول الذريعة والهدف .‏

غزة والضفة الغربية تحت الاحتلال، الاولى بالحصار والثانية بالسلاح الصهيوني، ورغم ذلك تنعكس الاولويات، وتصبح تصفية الحسابات بين فصيل فلسطيني والفصيل الآخر أولى من مقاومة الاحتلال، واولى من نسج وشائج الوحدة الوطنية التي تمزقها سكاكين العصبية الفصائلية في الصباح والمساء، فيما بنيامين نتنياهو يمسك مفاتيح القدس بيديه، وليبرمان يمحو عروبتها بيتاً بيتاً وحياً حياً!‏

كان شفيق الحوت المستشرف من تجربته الثرية ملامح المستقبل، كان يعرف ان اوسلو سوف تقود النضال الفلسطيني الى هذا المصير المفجع، وكان يدرك بثقافته ونقائه ان اوسلو لم تكن خطوة نحو التحرير، بل خطوة نحو الوقيعة والفتنة، وان الانسحاب الصهيوني من غزة لم يكن خطوة نحو استقلال القطاع ، بل هرباً من مستنقع تعب من الخوض فيه، وكان يعرف ايضا ان البندقية الفلسطينية ان لم تتوحد فستغير وجهتها ويسقط اصحابها في المعصية!‏

ولأنه كان يعرف كل ذلك فلقد نحّى اوسلو عن خياراته، ونأى بنفسه عن صراع البنادق المتآخية، وظل وفياً لفلسطين كما استوطنت قلبه اول مرة، وكما رسمها في حبره وريشته منزهة عن دنس الصراع الغرائزي الذي اشتعلت نيرانه بين محبي فلسطين على ضفتين مختلفتين يفصل بينهما الاحتلال ، ويوصل بينهما الاحتلال.‏

اغمض شفيق الحوت عينيه اذن للمرة الاخيرة، تحت سماء بيروت وطوى دفاتره واقلامه، وجرد روحه من احزانها، وطوى قلبه في غيمة بيضاء تتجه جنوبا نحو بوابة فاطمة، فعلى طرق الجنوب قد يستقيم الحلم ويخصب العشب وينجلي معنى البندقية التي عرفت وجهتها فلم تبدلها، البندقية التي القى عليها شفيق الحوت رهانه، وأخلى مكانه بين قادة فلسطين الكبار.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية