تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أحمد عبد المعطي حجازي..ثنائية التجربة والرؤية

ثقافة
الأثنين 16-5-2011م
ممدوح السكاف

من روّاد الجيل الثاني للحداثة الشعرية أيضاً الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي في ديوانه الأول (مدينة بلا قلب) الصادر عام 1958،

ولقد ركز فيه على شعور الإحساس بالغربة والضياع في المدينة وهو شديد الشبه بزميله ومجايله عبد الصبور في مضموناته الشعرية وقاموسه اللفظي وشكله الفني وقد تتلمذ على مدرستهما بعدئذ الراحل الشاعر (أمل دنقل) مع تلوينات إخراجية صنعت له حضوراً متميزاً على ساحة الشعر العربي في حينه وإن كنا نعتقد أن هناك شاعراً لم يحتف به النقد الأدبي العربي كما يستحق على الرغم من تفرد صوته ونبرته الخاصة المتعلقة بغموض أسلوبه المغلق وسريالية صوره مع أن موضوعاته الشعرية ترتبط بالأرض والإنسان والطبيعة وقلق الحياة وانتظار مصير الموت، هو الشاعر المصري الراحل مؤخراً والمعروف بحداثته التي تختلف جذرياً عن طرائق حداثة عبد الصبور وحجازي ودنقل وإبهام لونه الشعري الخارج عن السرب وسمائه التي يحلق فيها كطائر الليل.‏

نعود الآن إلى شاعرنا حجازي فنقول إنه شاعر ريفي ولد في الريف المصري وعاش فيه شطر اليفاعة من العمر ثم انتقل إلى القاهرة ليتابع تحصيله العلمي، وجدانه الشعري وجدان رومانسي ذاتي يدور حول ثراء الطبيعة وسحر القرية وأحزان الحب والغرق في العزلة والاتجاه نحو التأمل، كذلك يمكن القول إن ولادته كشاعر كانت ولادة رومانسية على الرغم من نشأته الكلاسيكية الصارمة في الحياة المنزلية والاجتماعية والتعليمية، وفي هذه المرحلة من العمر الشعري، كانت نظرة حجازي إلى الشعر تتركز على أنه فن ذاتي يتحدث بأسرار الشاعر الروحية ومكابداته النفسية متأثراً في ذلك بقراءاته لأشعار سادة الرومانسيين من الشعراء العرب المحدثين أمثال علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن اسماعيل وعبد الرحمن شكري وغيرهم.‏

ولقد جهد حجازي في شطر شبابه الأول حتى تكوّن له مجمعه الرومانسي في اللغة الوجدانية المهموسة وأسلوبة الشعري الخيالي في التعبير والتصوير، ولكنه فوجئ عندما انتقل إلى القاهرة ليستقر فيها استقراراً كاملاً ويودع حياة القرية الهادئة وينخرط في صخب المدينة وعلاقاتها المعقدة وتجاربها الجديدة على طبيعته القروية البريئة، بأن رومانسيته مرفوضة من قبل شعراء القاهرة وعالمه الخيالي المجنح مثار استخفاف واستنكار من قبل المجتمع الأدبي في العاصمة الكبيرة، وأحسّ أن الشعر يتجه في تلك المرحلة من بدايات الخمسينيات إلى أن يكون واقعياً يصور حياة الإنسان في صراعه مع الفقر والمرض والجهل لتأكيد إنسانيته وتحقيق التزاميته، فأخذ شاعرنا نتيجة لنشوء قناعات مستجدة لديه من جراء معايشته لحياة المدن وما فيها من زخامة وجدة يغايران ماعهده عن الريف وما فيه من هدوء وقدامة، يتجه نحو معالجة موضوعات جديدة على بدايات تكوّن شخصيته الشعرية مستمدة من جبلّة إحساسه بالقهر البشري والعسف الطبقي، ومن وحي مثل هذه المعاينات والتجارب ومن وحي اهتمامه بمعيشة الناس البسطاء في مجتمعه كتب (الطريق إلى السيدة) والمقصود (السيدة زينب) أول قصيدة له على الشكل الجديد آنئذ ثم مالبث أن وضع يده بجدارة وعمق وفهم على النموذج الذي ظهر في ديوانه الأول (مدينة بلا قلب) نموذج الغريب في المدينة، إلى أن تهيأت للشاعر مجموعة من الظروف جعلته يؤمن إيماناً عميقاً بالاشتراكية والوحدة العربية.‏

ولقد استطاع هذا المعتقد الناشئ في فكر حجازي ووجدانه أن يمده شعرياً وفكرياً بالنموذج المقابل للغريب الضائع في دنيا المدن المزدحمة بالكثافة في كل شيء، وهو نموذج الثوري الواثق المتيقن من تحقيق جمهوريته المثالية بالنضال الفعلي لا بالأقوال الفارغة، فكان لابد للشاعر من أن يجدد قاموسه الشعري الرومانسي ويطمعه بلغة جديدة هي لغة العصر الحديث والحياة اليومية والسهولة الأسلوبية، دون أن يهوي بقصيدته إلى اللغة الصحفية السريعة التي انخدع بها بعض الشعراء السطحيين في تلك المرحلة من ولادة فكرة الواقعية الاشتراكية كمذهب أدبي، فحسبوا أن الشعر الجديد لايحتاج لأكثر منها ومن استخدامها ليغدو جماهيرياً.‏

ونتيجة لهذه النقلة والتمرس الحياتي والشعري وغنى التجربة والإبحار في عالم الثقافة المتنوعة الحديثة وخوض معركة الكفاح من أجل ترسيخ عقيدة الوحدة العربية، حلم جماهير الأمة وطموحها المطلبي، وعقيدة الاشتراكية مهوى الطبقات الكادحة المسحوقة في الوطن العربي، ولد ديوانه الثاني (لم يبقَ إلا الاعتراف) وتتابع نشاطه الشعري في دواوين لاحقة تعتبر جميعها تنويعات وإضافات على اللحن الأساسي في ديوانيه الأولين: الغربة والثورة، مع الالتفات إلى شعر الحب والمرأة والعودة للتراث واستحداثه في موضوع الحنين الطللي إلى الذكريات الغابرة والاهتمام بكل ماهو ماضِ وغائب، ومنسي والعناية باستثمار الشعر العالمي من خلال قراءة أشهر أعلامه ومواكبة شخصياتهم في إنتاجه الشعري الجديد، وخاصة ديوانه (كائنات مملكة الليل) الصادر عام 1978يكتب الشاعر (حجازي) في شهادة له عنوانها (في الرؤية والتجربة) ما نصه التالي في الصفحة (229-230) من المرجع اللاحق ذكره (لقد كتبت معظم قصائدي دون قصد واضح، نعم إنني اندفع للكتابة تحت إلحاح مثير ما، شرارة تنطلق من الصوت أو الهمهمة، من عاطفة أو حس أخلاقي، لكن هذا المثير يهب لي قصيدة لا قصداً، إنه يقذف بي في غيبوبة الكتابة دون دليل ماثل، وحين يخرج هذا الدليل من الغيب إلى الصحو أدرك أن توتري قد ثقل، وأن القصيدة توشك أن تهرب مني، فأعاود اقتفاء أثرها من جديد، فيما قبضت عليه مما تناثر من ريشها خلال المطاردات الأولى.‏

مع هذا جربت النظم قاصداً تنفيذ خطة معينة، وربما كان من المفيد أن أذكر أن هذا يحدث في المراحل الأخيرة من تجربتي أكثر مما كان يحدث في المراحل الأولى، ويمكن رد هذا إلى التطور الذي لحق طبيعة المثير، فقد صارت الأفكار والتصورات المجردة تلهمني بذات القدر الذي تلهمني به الامتحانات والخبرات الحسية والعاطفية، لكني حتى في حال القصيدة المخطط لها من البداية أجدني جانحاً بعد بضعة أبيات، محاطاً بتأثيرات لم أحسب حسابها من قبل، تفرض عليّ مساراً مختلفاً وقد تقودني إلى أرض لم تكن في خريطتي، أعلم أن واجب الشاعر في هذه الحال أن يلح في وضع العلامات للطريق التي أنساق إليها وللأرض التي اكتشفها ليتمكن من ارتيادها كلما أراد وليضمها إلى ممتلكاته، فهل أنا أفعل ذلك أم أنصرف غافلاً عن طريق العودة أو زاهداً في ذلك مكتفياً بذكرى العذوبة التي وجدتها على حين غرة، صادفاً عن تكرارها، راغباً في اكتشاف جديد غير منتظر؟ هل أنا باحث عن مساحة شعرية مرسومة أمتلكها وأضع حولها الأسيجة، أم أن غايتي هي الضلال في كون شعري غير محدود؟‏

لا أجازف بجواب حاسم، وإن كنت أجد نفسي مدفوعاً إلى محاولة التحرر من كل ما أملك إلا من الرغبة في الكتابة حين أساق إليها شوقاً، لست مهتماً باستثمار ما كتبته أو ما أستطيع أن أكتبه، بل أنا باحث دائماً عن قصيدة أخرى، عن نشوة أنا لها حيناً بعد حين.‏

المرجع كتاب ( في قضايا الشعر العربي المعاصر: دراسات وشهادات) الصادر عام 1988 عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.‏

m.alskaf@msn.com

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية