|
معاً على الطريق لا يختلف اثنان على أن أوروبا هي التي أنجبت أعتى ديكتاتوريات العالم وعلى رأسها النازية والفاشية وأنها مارست أشنع أنواع التعالي والعنصرية والاستعمار على الشعوب المسحوقة الضعيفة وأنها اجترحت معجزة الحربين العالميتين, وأنها أتحفتنا في اخر المطاف بالاحتباس الحراري الذي سيقضي على البشرية جمعاء خلال بضعة عقود, ولا بد من الاتفاق أيضا على أن ما جرى في أوروبا كان نوعا من المدنية العرجاء المنفصمة كليا عن المفهوم الجوهري والأصيل للحضارة بمعناها الأخلاقي والانساني والابداعي. وقبل أن تتحول الديمقراطية الى مضغة في الأفواه والى نكتة سمجة على أيدي الرئيس بوش وإدارته وطاقمه وبطانته من المحافظين الجدد فإن العالم أجمع وعلى رأسه الشعب الأميركي بات على يقين بأن أميركا ستمارس مزيدا من الاستبداد والخرق المتواصل لأبسط حقوق الانسان وستغرق في مزيد من الأوحال, وأن أماني ديك تشيني بانسحاب مشرف من أفغانستان والعراق يحفظ ماء وجه أميركا سيكون عصي المنال, وعلى الأخص بعد أن كان له شخصيا شرف التلويح بتوجيه ضربة عسكرية لإيران. لم تتوقف الفضائح الأخلاقية لأميركا-حصن الديمقراطية في العالم- عند حدود سجن غوانتانامو أو سجن أبو غريب أو السجون الطائرة والعائمة بل وصلت الى النقطة الحرجة بالحكم بنوع من الصغار على جندي أميركي بالسجن لمدى الحياة بتهم الاغتصاب وقتل الأطفال واحراق البيت لاخفاء الأدلة, ناهيك عن فضيحة مطالبة القضاء الايطالي أميركا بتسليمه 23 من عملاء الA.I. C لانتهاكهم حرمة السيادة الايطالية باختطاف الإمام المصري أبو عمر فماذا تبقى لأميركا من كرامة وكيف لها أن تستر عوراتها وسوآتها? والآن وبعد أن ناشد نيكولا ساركوزي مرشح اليمين للرئاسة الفرنسية أميركا أن تمنح أوروبا شيئا من الحرية وبعد أن أعلن أن التحالف مع أميركا يجب ألا يعني الخضوع لها, فعن أي ديمقراطية نتحدث? وبعد أن برأت محكمة العدل الدولية صربيا من أنهار الدم التي سالت في كوسوفو ومن المجازر التي كانت تسعى الى استئصال شأفة المسلمين عبر ابادتهم وسحقهم في مواطنهم بما كان يعرف بيوغوسلافيا فعن أي محكمة عدل يتحدثون, سواء في ما يخص السودان أم لبنان أم أي منطقة بائسة من العالمين العربي والإسلامي? إن أميركا التي تواطأت على التستر على قتلة الرئيس جون كيندي على مدى 43 عاما يجب ألا تكون لها علاقة من قريب أو بعيد بشيء اسمه عدالة أو محكمة أو كشف حقيقة ولا بد من أن تكف يدها عن التعاطي بمثل هذه الأمور كي يستشعر العالم ولو لفترة قصيرة معنى العدالة وأن يستطعم مذاقها. السؤال المحير والممض الذي يطرحه العقلاء والشرفاء والموضوعيون في أميركا هو: كيف لليهود الذين لا يشكلون أكثر من أربعة بالمئة من المجتمعات الأميركية أن يقيموا ذلك اللوبي الصهيوني العتيد!! وأن يحكموا الطوق على الكونغرس وأن يجعلوه أكثر صهيونية من الكنيست الإسرائيلي نفسه? لكن الفيلم الوثائقي الذي عرضته قناة الجزيرة الوثائقية مؤخراً عن (الماسونية) والذي أظهر أن أبرز الشخصيات الأميركية من جورج واشنطن رمز الاستقلال الأميركي إلى الرئيس هاري ترومان الأب الروحي للكيان الصهيوني كانوا من عتاة الماسونية, والذي كشف أيضاً الآثار المرعبة لمفاعيل بروتوكولات حكماء صهيون. كان على العالم أجمع أن يعرف أن أوروبا والغرب كله غير مؤهلين أصلاً لإبداع الديمقراطية أو إنتاجها أو ترسيخها أو رعايتها على الصعيد الفلسفي أو الاخلاقي أو الإنساني. لن استرسل في الحديث عن فضائح الغرب التي لا تنتهي حول تشويه وتزوير المسألة الديمقراطية وحول استخدام هذه المسألة كسيف مسلط على رقاب شعوب العالمين العربي والاسلامي, فما أرمي إليه تحديداً في نهاية المطاف هو تخلصنا جميعاً -موالاة ولا موالاة ومعارضة- من عقدة النقص تجاه الديمقراطية الغربية ووضع حد حقيقي وفاصل للدعاة والمتشدقين بها وللمتاجرين بمسألة حقوق الإنسان, والإقرار بأن الديمقراطية هي كلمة حق أريد بها باطل, وأن عشقنا للحرية والديمقراطية والدفاع عن حقنا في الاعلان جهاراً نهاراً وفي مختلف الوسائل المتاحة عما يدور في أخلادنا وأفئدتنا حول العديد من المسائل الجوهرية والمفصلية يجب ألا يتلوث بالمفهوم الغربي المشوه للديمقراطية. كان لابد من هذه المقدمة الطويلة للدخول إلى جوهر الموضوع وأعني المسألة الديمقراطية في بلدنا وعلى الأخص أننا على مشارف استحقاقين ديمقراطيين هما انتخابات مجلس الشعب والاستحقاق الدستوري لرئاسة البلاد. وتجنباً للخوض في التفاصيل وسعياً للدخول المباشر في الموضوع أعلن صراحة, أنني مع النظام الانتخابي لمجلس الشعب القائم حالياً عندنا, لكن لي اعتراضات جوهرية على آليات تنفيذه. إنني أولاً, وبشكل مبدئي مع نظام المحاصصة أو (الكوتا) المعمول به حالياً, وبصرف النظر عن أن بعض الأقطار العربية ليس فيها برلمان أصلاً فلقد أثبتت التجارب أن الديمقراطية المطلقة والمفتوحة بالكامل هي كارثية في العديد من الحالات, ومنها على سبيل المثال ما جرى في العراق حيث كانت النتيجة قيام برلمان مبني على أسس طائفية ومذهبية واثنية وقبلية نقل الاقتتال المقيت والبغيض من الشوارع إلى ردهاته وتحت قبته. ومع النقلة النوعية التي أجراها الكويت الشقيق بالسماح للمرأة للمشاركة في العملية الانتخابية ترشيحاً وانتخابا إلا أن النتائج أظهرت فشل المرأة في الحصول على مقعد واحد, وكان هذا أمراً طبيعياً في خضم مجتمع ذكوري قبلي متعصب, وبالتالي ألم يكن نظام (الكوتا) أكثر فاعلية لو أنه طبق في الكويت? أما بالنسبة للوضع في لبنان فلقد أشرت في العديد من المقالات إلى أن ما يسمى بالديمقراطية في لبنان لا يتعدى كونه نوعاً من نظام الكانتونات المبنية على الاقطاعات والمتصرفيات, وأن غالبية برلماناته المتعاقبة لم تعكس إرادة شعبية حقيقية, فكيف لشخص طارىء على المشهد السياسي مثل سعد الحريري أن يصبح فجأة صاحب أكثرية برلمانية وشخصية دولية مع وجود كل تلك القامات السياسية السامقة في لبنان لولا المال السياسي والشحن العاطفي والمذهبي والتدخل الغربي? لعل من أبرز سمات مفهوم الكوتا في لبنان أن النظام البرلماني فيه لم يعد مقتصراً على نظام المحاصصة الطائفي والمذهبي بل تعداه إلى مسائل أكثر خطورة, فصلب النظام البرلماني المبني على تقاسم البرلمان مناصفة بين المسيحيين والمسلمين, باعتماده على هذه النسبة حين جرى وضعه, من ضمن حقيقة أن لبنان كان من الناحية الديموغرافية نصفه مسيحيين ونصفه مسلمين, ما زال مستمراً على صيغته السابقة, رغم التغيرات الديموغرافية الضخمة التي طرأت على مجتمعه والتي جعلت النسبة تختل بشكل كبير إلى حد ثلاثين بالمئة للمسيحيين وسبعين بالمئة للمسلمين. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف تغيب قامات شاهقة من تحت قبة البرلمان لولا هذا التزوير الحاصل في لبنان? لن أدخل في لجة تفاصيل ذكر الشخصيات المرموقة التي غابت عن البرلمان اللبناني, ولكن أكتفي بذكر شخصية واحدة هو سليم الحص المحترم في بلده والمحترم من دول القرار في المنطقة: السعودية, سورية, إيران.. وعليه فبما أن ثمة مسعى لخلق حكومة ظل في لبنان أرتئي أن يكون هناك برلمان ظل في لبنان يتألف من الشخصيات الفاعلة التي أقصيت عن قبة البرلمان بظروف لا أخلاقية يقوم أعضاؤه بتداول مسائل ومشكلات الوطن بنوع من المسؤولية أمام هذا البرلمان القزم الذي ليس له من استراتيجية إلا المحكمة الدولية الكيدية. وانطلاقاً من هذه النقطة فإن مشكلتنا في انتخابات مجلس الشعب القادمة تتركز حول نقطتين: الأولى هي مواصفات القادم الجديد إلى مجلس الشعب أما الثانية فهي في توفير الآليات القادرة على إدخاله إليه. بالنسبة للنقطة الأولى فإن القادم الجديد يجب أن يكون خالياً من العلل بمعنى أن يكون وطنياً غيوراً واعياً استراتيجياً عصرياً له علاقة بالحاسب والانترنت والأهم من ذلك كله أن يكون مجرباً, أما آليات إدخاله إلى المجلس فيجب أن تكون بعيدة تماماً عن اللافتات والدعايات والأزلام والغدوات والعشوات والخيمات, فلقد آن لنا أن نبني الدولة كمؤسسات خارج الأيديولوجيا والمحسوبيات ونحن نواجه كل هذه الصعوبات والمآزق والمخاطر والتحديات. burhanboukhari@gmail.com |
|