تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


إبداع الحياة أوله سورية

ثقافة
الأثنين 23-5-2011م
طارق حريب

سورية نبع الحضارات ومهدها وأولها، منها وحدها انطلقت الرسالات النبيلة لخلاص الإنسانية، ومنها ولدت الأفكار الأولى سعياً إلى سعادة الإنسان ورخائه وسلامه.

إنسان سورية أبدع أولى الملاحم الفكرية والثقافية والميثولوجية في التاريخ التي استلهمت ثقافة الشعب السوري، وحضارته العظيمة ومن هذه الملاحم أخذت الثقافات الأخرى الكثير الكثير، وفي هذه السطور نستعرض حياة واحد من مبدعي سورية العمالقة.‏

هو لوقيانوس السوري المفكر الكبير، أبدع تراثاً ضخماً خلده على مر الزمان والعصور ويؤكد ما للعرب من أثر عميق في تطور الفكر الإنساني من خلال الأجيال المتعاقبة، ويعتبر لوقيانوس عملاقاً من عمالقة الأدب العالمي، ملأ الدنيا، وشغل الناس منذ ألف وثمانمئة عام، يتردد صدى صوته أبداً في واحات العقل الإنساني ومساحات الفكر والثقافة، ويمثل عبقرية شعب سورية بمرونة فكره، ووحدة ذهنه، وسرعة خاطره، وخصب إبداعه.‏

كان لوقيانوس أول من تخيل الرحلات بين الأفلاك، وفتح القمر وأول من كتب عن اتصال سكان الأرض بسكان الكواكب والنجوم.‏

أول لغة تعلمها هي اللغة السريانية التي كانت دارجة في سورية، وتعلم الآرامية. واللغتان ساميتان وتعلم اليونانية ونبغ فيها وتعمق بمعرفة أسرارها وامتلك ناصية ألفاظها وصيغها، وتفوق ببديع تصرفه بصرفها ونحوها على أهل زمانه كلهم وكانت هذه الخصلة مأثرة من مآثر الشعب السوري الذي اعتاد أبناؤه في كل عصر أن يتفوقوا في اللغات الأجنبية تفوقهم بلغتهم وينشرون على العالم أجمع في تلك اللغات ما توحيه إليهم أرواحهم النبيلة من تعاليم وأساليب ثقافة وإبداع.‏

كتب في الفلسفة فأبدع، وأدار الحوار فجدد، وبحث في نهج التاريخ فتألق وأثبت مهارة نادرة في تكييف وجوه البلاغة ورواية الأحداث، وابتكار القصص، والتعمق في النظريات والعلوم، إنه يمثل عبقرية ونبوغ شعبنا العربي السوري في إبداع الحياة.‏

ولد لوقيانوس في مدينة سميساط السورية الواقعة على نهر الفرات الأعلى، ونشأ فيها، كان أبوه يعمل عاملاً يدوياً، وكانت أمه ابنة نحات يصنع التماثيل، لها شقيقان يحترفان صنعة والدهما، وعندما أنهى لوقيانوس المرحلة الأولى في المدرسة، ألحقته أمه عند أحدهما ليتعلم صناعة التماثيل، ولم يعجبه هذا العمل، واستنكر أسلوب خاله القاسي في تعليمه وغادر المشغل غاضباً، وأقنع والديه بضرورة متابعة الدراسة، وكان توجهه جيداً، ودرس جميع المؤلفين في عصره وقبله، مثل هوميروس وهزيود وبندار وغيرهم وقرأ الدراميين والهزليين، واهتم بفكر أفلاطون وأرسطو وأبيقور، وتعمق بقراءة آثار المؤخرين كهيرودوت وزيفون واطلع على إنتاج الخطباء وخاصة ديموستين.‏

وحين أنهى دراسته امتهن المحاماة وأخذ يرافع في انطاكية، غير أنه ما لبث أن ترك هذه المهنة فغادر انطاكية إلى أثينا، وعمل بمهنة السفسطائي، إذا كان السفسطائيون في ذلك العصر خطباء يتنقلون من بلد إلى أخر يلقون خطبهم أمام الأثرياء والوجهاء، فيكسبون أموالاً كثيرة وشهرة واسعة.‏

أحس لوقيانوس أنه يملك البلاغة، وحسن الخطابة، فبدأ يقيم حفلات عامة على طريقة السفسطائيين، وبعد فترة من الزمن أصيب بمرض شديد بعينيه استعصى على الأطباء فأرغمته حاله هذه على السفر إلى روما ليعالج عينيه عند طبيب العيون ذائع الشهرة، والتقى هناك بالفيلسوف «نيقرنيوس» وأثر هذا به، وعاد إلى اهتمامه البالغ في الفلسفة وبالوقت نفسه ظل حب المجد يدفع به إلى بلوغه فعاد إلى أثينا وزاول الخطابة.‏

وأخذ بالتنقل من جديد، فعاد إلى روما- وذهب إلى فرنسا ودرس فيها البلاغة، وكان يتقاضى عن تدريسه راتباً كبيراً ومضى يجول في بلدان عدة يلقي المحاضرات يضمنها أفكاره، وكانت تدر عليه أموالاً كثيرة، وجنى من ذلك ثروة وشهرة كبيرتين، فعاد إلى بلده سورية وإلى سميساط مدينته الفراتية التي أنجبته، ثم أقام في انطاكية لكنه ما لبث أن غادرها مع أهله إلى أثينا- لكنه ما إن وصلها حتى ترك أهله يتجهون نحو الساحل، ورحل إلى «يافلاقونيا» ليلتقي الشهير «اسكندر البلافلاقوني» بمحاولة الكشف عن شعوذة ودجل هذا العراف الذي اغتاظ من لوقيانوس وسخط عليه لكنه أظهر المودة له فقدم له زورقاً لكي يغادر مع جذافين أمرهم أن يغرقوا لوقيانوس في أعماق البحر لكن بعضهم استيقظ ضميره فلم ينفذوا أمر العراف- وأنزلوه في ابيال ومنها مضى إلى طروادة ثم تنقل من بلد إلى أخر- وما إن بلغ الأربعين من عمره اعتزل السفسطائية، وعاد إلى الفلسفة فالأخلاق العملية التي هي نزع الأقنعة عن الرذائل.‏

يقول لوقيانوس في كتابه الصياد «إن مهنتي هي كره المتشدقين والمشعوذين والكذابين والمتكبرين وإني لأبغض هذه الذرية من الأرذال».‏

وفي عام 185م حط ترحاله في مصر وحصل على وظيفة رسمية في الإدارة المصرية.‏

دفعه خياله المجنح، إلى الخيال العلمي بل يعتبر لوقيانوس السوري أول من كتب عبر تاريخ البشرية وحمله خياله على استكشاف المحيط فأبحر في اليم، ومعه عدد من أصدقائه، فثارت بهم أعاصير شديدة استمرت أكثر من شهرين وألقت بهم على شواطئ جزيرة سواقيها خمر وفيها أشياء عجيبة ثم صعد مع رفاقه إلى القمر ثم غادروه إلى الشمس وحاربوا سكانها- واقاموا فترة طويلة بسفينتهم في بطن الحوت والتقى برجال أقدامهم من فلين يسيرون فوق الماء ثم رحلوا إلى جزيرة السعداء وقام بمغامرات غريبة إلى أن ضاع في قارة غير معروفة.‏

وأجمل ما في رحلاته وصفه الإبداعي لبلاد الأحلام وأساليب حياتهم العجيبة والغريبة وتحدث عن أماكن غريبة أشد الغرابة ولقد استلهم الكاتب الفرنسي «فينيلون» من لوقيانوس وخاصة كتابه جزيرة الملذات كما استلهمها الكاتب سويفت في كتابه أسفار غوليفر وغيره الكثير وفي كتاب ألف ليلة وليلة نجد بعضاً مما أشار إليه لوقيانوس في كتبه.‏

أبدع لوقيانوس السوري الكثير من القصص وخلق في عالم الخيال العلمي وحلق في أعماق النفس الإنسانية، ويعد أهم العلماء والفلاسفة وملهم المثقفين والفلاسفة في جميع الحضارات التي جاءت من بعده، وهو أول من كتب محاولة قصصية لطرح فكرة السفر إلى القمر في التاريخ وقد قال عنه الكاتب البريطاني مات ستيفن: «لوقيانوس السوري وضع فكرة ارتياد الفضاء» كتب لوقيانوس السوري الفراتي في الأمور الإلهية وفي عوالم الخيال والأدب الفلسفي وكتب عن رحلات أسطورية، وصف بلدان وعوالم وتحدث عن أشكال المخلوقات الخرافية وجزر نائية وبحار مسحورة في عالم من الروعة والإبداع وتعمق في النفس الإنسانية وترك أثاراً فكرية وفلسفية تعد كنزاً من كنوز الحضارة السورية بل الإنسانية.‏

تركت مدرسة الثقافة السورية وحضارتها أثراً عظيماً في الحضارة العالمية ومنهم لوقيانوس السوري.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية