|
ثقافة هكذا كان يطبّق ترومان كابوتي أسلوبه.. لدى إجرائه مقابلاته الصحفية التي هي برأيه فنٌ.. فن أن تدع الشخص الآخر يعتقد أنه هو من يجري معك المقابلة. وبالفعل على هذا النحو قنص مقابلته مع مارلون براندو.. حين أراد كتابة مقالة عن فيلم «سايونارا».. ما كان منه إلا أن سافر إلى كيوتو حيث يصوّر الفيلم.. ومما قاله براندو عن اللقاء الذي جمعه بكابوتي: (السافل الصغير قضى نصف الليلة وهو يتحدث معي عن مشاكله كلها. قررت بأنه أقل ما يمكنني عمله هو إخباره عن بعض من مشاكلي). خلال الفترة التي أجرى فيها كابوتي لقاء مع براندو كان بصدد كتابة (بدم بارد).. وكما لو أنه جعل من لقائه تدريباً على كتابة ذاك الكتاب.. الذي سيغدو أهم عمل في تاريخ كتاباته كلها. يعود ترومان كابوتي إلى الواجهة حالياً من خلال طبعة جديدة من روايته (فطور في تيفاني) أصدرتها دار (ذا فوليو سوسايتي) مؤخراً.. تدور أحداثها حول البطلة هولي غولايتلي.. التي يرى كاتب سيرة كابوتي، جيرالد كلارك أنها تشبه الكاتب أكثر من أي شخص آخر. البعض رأى فيها شبهاً لوالدته ليلي مي فوك، كانت من مونروفيل- ألاباما، لدى زواجها انتقلت من القرية إلى نيو أورليانز وأنجبت ترومان الذي أرسلته إلى أقرباء للاعتناء به. خانت زوجها وانتقلت إلى نيويورك وهناك قابلت جو كابوتي تاجر الأقمشة.. تزوجته واستعادت ترومان الذي حمل اسم زوجها الثاني. لم تستقر حياتها مع إذ سرعان ما اُتهم بالاختلاس. بحسب كابوتي لم تكن بطلته بائعة هوى إنما «غيشا» على الطريقة الأميركية.. تحيا الحفلات ليلاً وتنام نهاراً.. تبحث عمّن ينفق عليها ويقدّم لها الهدايا. لم يتمّ النظر بأهمية إلى (فطور في تيفاني) لحين صدرت (بدم بارد) التي كانت سبباً لإعادة تقييم أدب كابوتي بمجمله.. وبالتالي اعتبرت تلك الفتاة السطحية «هولي» نموذجاً متمرداً، اجتماعياً وجنسياً، أقله أنهم رأوا فيها نموذج تحرر نسوي في ستينات وسبعينات القرن العشرين.. ودخلت قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. فما قصة رواية (بدم بارد) التي أعادت الاعتبار لكابوتي..؟ دائماً ما اعتبر كابوتي، نفسه، هذا العمل تحقيقاً صحفياً لا رواية.. يصرّ على ذلك.. وبهذا يفتح الباب واسعاً لنوع أدبي جديد.. يمكن أن يقترب من التوصيف (الكتابة الروائية بروح التحقيق الصحفي) ومن الجائز قلب التوصيف ليغدو تحقيقاً صحفياً بروح الرواية. يفرز النقاد ويصنّفون (بدم بارد) ضمن نوع الصحافة الجديدة.. وصلب هذه، تحقيقات ونصوص لها جذرٌ واقعي.. تنمو على يد الكاتب آخذةً نمطاً أو قالباً روائياً.. فاعتبروها من أقوى وأجمل نصوص (الصحافة الجديدة).. ومهما اختلفوا في قضية تصنيفها تبقى العمل الذي جعل المؤلّف من أشهر كتّاب الولايات المتحدة.. بل ضمنت وقوفه في الصف الأول بين روائيي جيله. كلا العملين (فطور في تيفاني) و(بدم بارد) تمّ تحويلهما أفلاماً سينمائية.. لكن أهمية الأخير أنه يلتصق أكثر بواقع تجربة حياتية عاشها كابوتي (1924- 1984)، الطفل المدلل للأدب الأميركي بحسب مارك سابورت. تتحدّث (بدم بارد) عن جريمة قتل ارتكبها قتلة بدم بارد.. يكتشف الكاتب أنها مجانية تمت أوائل ستينيات القرن الماضي.. يقرأ كابوتي خبر الجريمة ويرغب بكتابة قصة عنها.. يُكلّف بالتحقيق الصحفي لمتابعتها لحساب مجلة (ذا نيويوركر) التي أبدى مديرها رغبته بمتابعة التفاصيل.. ويدعم كابوتي بتغطية تكاليف رحلته إلى كانساس. يتمكّن كابوتي من التواصل مع مختلف الأطراف.. وعند لقائه القتلة ديك هيكوك وبيري سميث يتعلّق بسميث ويرتبط به بعلاقة صداقة قوية. فيلم (كابوتي) الذي أنتج منذ عدة سنوات يتحدث عن رواية (بدم بارد) لكن من الخارج.. يصوّر الكيفية التي جمع بها الكاتب تفاصيل حكايته. يعود الفيلم إلى الفترة الزمنية التي أمضاها يبحث ويستقصي ليجمع معلومات شكّلت عماد كتابه (بدم بارد). يصادق أحد القتلة المجرمين في قضية كانساس، بيري سميث, يدخل إلى جوانيات الشخصية ليقترب أكثر من منظورها وكيفية رؤيتها لفعل القتل. كابوتي سيء السمعة، الشاذ، كما أشيع عنه، يقع في حب بيري على طريقته الخاصة. لغز هذا الحب يبدأ من تساؤل تُثيره إحدى صور مسرح الجريمة التي تُظهر رأس طفل أريح على وسادة قبل أن تُطلق عليه النار.. يتساءل كابوتي: لماذا يهتم قاتل بإراحة الضحية قبل أن يقتلها..؟ لكن السؤال المعلّق: هل رغبته بتمضية الوقت مع بيري كانت بدافع حبه له أم بدافع حاجته له.. لينهي كتابه.. ؟ يحضر له محامياً.. يؤخّر إعدامه.. يزوره بانتظام.. علاقة مشوشة غامضة تظهر انجذاب كابوتي إلى القاتل. الفيلم مزيج ما بين دراسة لشخصية كاتب أميركي معروف وبين قضية تحقيق في قضية قتل. |
|