تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أورسون ويلز.. قراءات جديدة

كتب
الأربعاء 15-2-2012
أستهل أورسون ويلز عام 1943 مع شركة R.K.O  بفيلم رحلة داخل الخوف عن قصة أريك ميلر قائماً بدور البطولة مع ممثله الأثير جوزيف كوتن ودولوريس دل ريو،في تلك الأثناء طرأت تغييرات إدارية في الشركة

ومن حصيلتها إلغاء عقد ويلز وتحويل الفيلم إلى المخرج نورمان فوستر، ويفشل الفيلم فشلاً ذريعاً مادياً وفنياً... ماذا لو أكمل ويلز الفيلم هل من المحتمل أن يكون تحفة أخرى؟؟ من يدري!!‏‏

عام 1944 يمثل في فيلم جين أير الجميل ولكنه ظل يردد (هنالك ثلاثة أجناس لعينة: الرجال والنساء والممثلون) و(هوليوود مكانا مناسبا للاعبي الغولف والمتوسطي الذكاء والعاهرات ومن يبحثن عن الشهرة) كان يشعر بالغبن وبطاقته التي تهدر، بعد ذلك بسنتين يخرج فيلماً بوليسياً متوسط الجودة (الغريب) من بطولة لوريتا يونك وبعده بسنتين أخريين يخرج لزوجته ريتا هيوارث فيلم (سيدة من شنغهاي) ورغم عدم رضاه عن تجربتيه البوليسيتين يبقى فيلم سيدة من شنغهاي واحداً من أجمل الأفلام البوليسية فقد غير شخصية ريتا هيوارث خالقاً منها امرأة لعوبا فاتنة وزوجة لمحام مقعد أداه ببراعة أيفيرت سلون، وكالعادة حفل فيلمه بعشرات من التفاصيل الجميلة والمشاهد الرائعة وحوار غاية في الذكاء، ولا ننسى طبعا تلك النهاية التي غدت واحدة من أجمل نهايات السينما وأبرعها حيث المواجهة بين المرأة وزوجها في غرفة مملوءة بالمرايا.‏‏

عام 1948 يخرج آخر أفلامه في أمريكا قبل أن ينفي نفسه إلى أوربا لأنه كان عاطلاً وبلا عمل إنها دراما شكسبير (مكبث)، وحين كان المصور يصور أحداث الفيلم (أقلقه تركيز ويلز على تفاصيل محددة بدلاً من التركيز على مشاهد كاملة وتغيير موقع الكاميرا كل بضع ثوان، قال له ويلز: هنالك أسباب سينمائية لتمزيق نص شكسبير، وربما كانت هنالك أسباب شخصية أيضاً) ذلك الخليط يتوافق مع قلقه وتشظي ذاته، لكنه من قلقه الدائم سحب الفيلم من مهرجان كان ذلك العام تاركا لورنس أوليفييه يفوز بجائزة المهرجان عن دراما شكسبير الأخرى (هاملت).‏‏

هناك يبهر أوروبا وعمالقتها الشكسبيريين (جون غليغوود، ولورنس أوليفييه) بأدائه لأدوار الدراما الشكسبيرية على المسرح حتى إن غليغود صعق عام 1951 وهو يرى ويلز يؤدي (عطيل) على المسرح غير مصدق (عطيل؟ وعلى خشبة المسرح؟ وهنا في لندن؟)، ويمثل للسينما دوره الخالد في (الرجل الثالث) ثم دور الكابتن (آهاب) في رواية ملفيل (موبي ديك) قبل أن يعود ويخرج (عطيل) للسينما بعد أن عمل عليه لمدة (3) سنوات، يعود إلى أمريكا وتكلفه شركة يونيفرسال بإخراج (لمسة الشر) ذلك الفيلم الذي لمعت فيه عبقريته مرة أخرى، مصوراً أجواء مدينة حدودية مكسيكية حيث أشعة الشمس الحارقة والفساد وليلة رعب يعيشها مدير الشرطة وزوجته، ولعب في الفيلم دور مدير الشرطة الأميركي الفاسد، ثم بعد ذلك عام 1962 يحقق فيلما جيدا عن رواية فرانز كافكا (المحاكمة) ورغم أجواء كافكا العسيرة على السينما إلا أن عبقرية ويلز تجسدت في بعض المشاهد والتفاصيل معطياً لنفسه دور المحامي تاركا البطولة من نصيب أنطوني بيركنز في واحد من أدواره القليلة المهمة، بعد ذلك بأربع سنوات يحقق (فولستاف) وفيه شبه كبير من المحاكمة وأجواء شكسبير وبأداء تمثيلي ممتاز، لكن البطالة تلاحقه يكتب ويمثل في أفلام غيره ويحقق ممثلا إعلانات عن شركات للبيرة،كان يعشق التمثيل ويردد (الممثل يخدع الجميع إلا نفسه) و(الفن هو الكذبة التي تجعلنا نرى الحقيقة) يمثل للإذاعة أغلب الشخصيات التي يكتبها حتى لو كان العمل فيه أربع شخصيات أو خمس أو حتى ست، بقي يحلم بإنجاز مشاريع أخرى لم تتحقق حتى وفاته عام 1985 لأنه لم يجد من يثق فيه ويمول له تلك المشاريع (إن بداية الحياة ونهايتها عهدان ذهبيان أما منتصف العمر فهو العدو) هكذا صرح يوماً يائساً، كانت فوضويته هي المقدس ذاته على حد تعبير (هيدغر)، فوضويته وعبقريته خلقت أسطورة أكبر من أن يحتويها أساطين هوليوود ولذلك حصلت الغربة بين ذاته وسطوتهم (كنت دائماً أطمح الى أن أكون أكبر من الحياة وهذا خطأ في طبيعتي)، قال عنه الناقد رونالد بيركان: (إنه صورة مزيفة، إنه لم يحقق إلا فيلما واحدا عظيما، إنه يصهر نفسه في إعلانات البيرة) وردت دوروثي باركر قائلة: (إن تقابل أورسون ويلز هو يعني أن تقابل الآلهة دون أن تموت) مارلين ديترش الممثلة الرائعة والتي مثلت معه في لمسة الشر قالت: (رجل عظيم ماذا يهم ما يقوله الآخرون عنه)، (أيرفنج بن صور ويلز عام 1954 وسمى النتيجة (صورة مع رموز)، ينظر ويلز إلى الكاميرا نظرة جانبية مع ربطة عنق متقوسة، وشعر مشعث مثل شعر صبي ويبدو مثل ولد شقي مراوغ ينتظر العفو انتظار محترس، يضع، والسيجارة في يده، إحدى قدميه على طاولة حيث ألقى بن أدوات فنونه المتعددة، إضافة إلى عدة أخرى مما يستعين به المخرج تعلق في صمت على شخصيته، الى جانبه صورة حيوان خرافي نصف نسر ونصف أسد،وهو محلق مع ضحيته قبالة منحدرات صخرية مستدقة الرؤوس، ربما كان الحيوان صديق ويلز، ومذكراً بنصير فاوست الرجيم، وهناك بوق فونغراف بارز من كاميرا قديمة يستعيد أيامه في الإذاعة، وقطار على سكك دائرية يشير إلى وصف موقع الفيلم، والمحير أكثر من ذلك هو بوق ملقى على قفاه ويكاد رأس سيجار ويلز يدخل في فتحته) هذا الاتصال تعليق على فن الإعلان المكمل كانت الصورة خير تعبير عن ويلز وروحه: كان خبيراً في نفخ بوقه ولكن السيجار يوحي بالتضاؤل، إنه على حد تعبير شكسبير كاتبه المفضل (الإنسان الواحد يؤدي في حياته عدة أدوار) نعم هكذا كان أورسون ويلز المخدوع بهوليوود والعبقري الذي خانه ذكاؤه فانتهى إلى أسطورة منسية.‏‏

قدم أورسون ويلز عبقري السينما والمسرح نفسه على انه «كاتب وموسيقي وممثل ومصمم ومخرج مسرحي ومخرج سينمائي وباحث وخبير مالي وخبير مآكل وخمور ومتكلم من جوفه وشاعر» هذا التقديم مناسب لرجل أمضى حياته وهو يؤلف الأساطير عن نفسه، حيث إننا لا نجد له حياة حقيقية سوى مجموعة هذه الأساطير التي تفيض عن حياة كاملة. لقد اعتبر اورسون ويلز نفسه كما اعتبره الآخرون رجلاً متعدداً فقد عاش طوال حياته كما قيل عنه طفلاً بابتهاجه الساذج وجشعه وفظاظته ومشاكسته. أحيا أورسون ويلز في أعماله شخصيات بيتر بان وقوبلاي خان وشخصيات شكسبير ودون كيشوت وفولستاف.‏‏

الكتاب صدر حديثاً عن دار المدى.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية