تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


جاك تاتي .. فنان الفكاهة

كتب
الأربعاء 15-2-2012
إن جاك تاتي المحب للعزلة والذي ينتابه شعور مشوش في لحظات المجد، كما في لحظات خيبة الأمل، قد جلب على مدى ستة أفلام إسهاماً فريداً إلى تاريخ السينما الفكاهية.. فمن فيلم (يوم عيد) إلى فيلم استعراض،

مروراً بالأفلام الأربعة الطويلة التي ستستحضر محن السيد هيلو ، تشكل أفلامه كلاً متكاملاً ، وعالماً مركباً على نحو غير عادي، وبفضل تجديداته واستبصاراته ، تفلت أعماله الفنية الفريدة هذه والحق يقال.‏

من حقل الفيلم الفكاهي وحده. لابل من السينما ذاتها.. إنها تضع تاتي إلى جانب كبار مبدعي عصره وعصرنا اليوم.‏‏

إن تاتي سينمائي وهو مصور ومصمم رقص.. ومؤلف موسيقي.. ومعمار وإلا أنه مجدد لا يرتوي ،وصانع ماهر يستحوذ عليه التفصيل الصوتي والبصري، فهو أيضاً رياضي ملهم، رياضي بارع وفنان كامل للزمان والمكان وللمادة والحركة، لقد احتفى تاتي ، في قمة مجده باعتباره التجسيد عينه للعبقرية الفرنسية، هو الذي كان بالقدر نفسه روسيا، وإيطالياً وهولندياً، من خلال أسلافه، لقد حيته أكبر شخصيات الفن السابع : فرانسوا تروفو، وفيديويكو فيللني، و أندريه تاركوفسكي، ولأقرب من هذه الشخصيات إلينا دافيدلينش أو اكي كوريسماكي. ولم يخسر تاتي هذه الحالة قط في الساحة الدولية ولسوف تكون فرنسا أكثر تقلباً أو أكثر إجحافاً في موقفها منه، ويعد انهيار فيلم (وقت للعب) تشيح برأسها عنه، والصانع العبقري المدقق في التفاصيل ينسى ، وتنسى القامة العالية قامة المخرج العاكف على آخر سيناريو له، والذي لن يصوره قط.‏‏

وفي الموضوع الهوائي الذي يخترق أعماله خفية، تبقى سينما تاتي محصورة في مكان بين السماء والأرض في المظهر.‏‏

غير أن الأمر الأسوأ لا يكون مؤكداً قط. فبعد ثلاثين عاماً من اختفاء أعماله، تباشر ثانية ، إنها لم تفقد قط ألوان محبة الجمهور، غير أن اللقاءات ببساطة كانت عرضية ونسخ الأقلام قد أصابها بالتلف الاستهلاك ومرور الزمن عليها.‏‏

إن الجميل في القصة هو أن سينما تاتي لم تفقد شبابها قط، فمع تاتي تكون المشاهدة دوماً للمرة الأولى، وهذه المرة الأولى تحدث في العيون وفي الصدر اندفاعات ضحك فجائية، ودموعاً مغتبطة ودهشة وسروراً. ووخزات قلق ووثبات للخيال محفوفة بالمخاطر. ولا تتم السيطرة عليها ولا تنسى ولكن ماذا يصنع ليقاوم مرور الزمن؟ إن اللغز يبقى كاملاً ولا تفتأ نوعية النسخ الجديدة لأفلامه تضخم هذه اللغز.‏‏

إن لسينما تاتي خصوصية منفتحة حاضرة وغير متوقعة في آن واحد.. إن آلية عملها لا تسير دفعة واحدة.‏‏

والمشاهد الذي لايزال يغمز بعينيه يحس بذلك جيداً، ما إن يخرج من حالة العرض، ذلك هو اللغز في غمرة المتعة، إن شيئاً ما في الخارج. قد تغير، إن كل شيء أكثر حيوية، أكثر تحديداً ،وهو رنان ولربما أكثر طرافة، إذا تمهلنا إن تاتي يظل حاضراً ليس كذكرى بل كنظرة مباشرة وسفيهة.‏‏

ما سر هذا الإحساس الجسدي إلى حد كبير هذه الفورية التي تجعلنا نرصد العالم، وهوائيات الالتقاط كلها موجودة في الخارج؟ إن مسألة لغة تاتي مسألة مفتوحة، إنها لا تنفصل عن قصة تلقي أعماله الفنية. الفترة الأولى 1949 ظهور فيلم (يوم عيد) وهو أول فيلم طويل لجاك تاتي، وقد استقبل وكأنه شؤبوب مفاجئ من السعادة والسخاء، يهطل على الحقل المجدب والقاتم، حقل السينما الفكاهية الفرنسية الذي آل تقريباً منذ مجيء السينما الناطقة إلى ضروب باهتة من النقل إلى شاشة مسرح الجادة الهزلي . فما من مسرح ولا سينما باستثناء مسرحية طريفة للثنائي مارسيل- وجاك بريفير. غير أن ذلك يعود إلى عام 1937 ويحدث ثورة في فيلم الإضحاك برجوعه إلى متابع السينما الهزلية والكوميديا المرتجلة. وذلك بالاتصال المباشر مع عصره المنتشي بالحرية والعمل. ويختفي فيلم يوم عيد بانبعاث معين. وذلك باستخدامه للوسائل اليومية والاحتياطي من التفاؤل لا خلفية له. ويفتح ورشة لإعادة بناء ليست إعادة بناء للفيلم وللملهاة فحسب إن تاتي يعين موعداً ولكن الذي ينبغي انتظاره ؟ قد يخشى أن يبقى النجاح بلا عاقبة. أو أسوأ من هذا. أن يستثمر المخرج، الذي انتشى بالنجاح إن سينما تاتي من حيث جذورها، تدين بكل شيء لمسرح المنوعات، فهذا هو عالم جاك تاتيشيف الأول. إضافة إلى الرياضة وانطباعاته الرياضية إنما يغدو جاك تاتي بصورة طبيعية فعلاً وهذا العبور بمسرح المنوعات هو كل شيء باستثناء أن يكون عبوراً حكائياً، وذلك في مسيرته الفنية، وفي الكشف الداخلي والمعلن لشخصيته كفنان وسوف نرى انطباعاته الرياضية في سنوات الثلاثينيات على مسارح المنوعات الباريسية الكبرى، وفي الريف، وفي معظم العواصم الأوروبية ، إنه يمثل فيها إلى جانب ميشيل سيمون، وماري دوبا، ويتشبث مع جان- لوي بارو بأن ينسب إليه إحدى فقراته التي يتفاءل بها والتي يجسد فيها حصاناً وفارساً في الوقت ذاته.‏‏

في هذا الفن هنالك الإيمائية وهناك الملهاة المرتجلة. إن تاتي إيطالي مثلما هو إنكليزي ، من حيث حيوية الحركة والميل إلى الطرق المختصرة، غير أنه في الأساس بعيد عن عنف الهزل الأميركي مثلما هو بعيد عن الإضحاك على الطريقة الفرنسية التي هي أكثر ثقافة وأكثر أخلاقية وأقل هجومية فلابد من وقت ليقوم المرء بعطفه، ثم يضحك بعد ذلك، لابد من الرجوع بعيداً إلى حد كاف من الزمن وفي الأدب ، لكي نجد في فرنسا أحداً يفلت من تلك الدعابة العاقلة ويشبه تاتي في عائلته: ولعله يكون (ابن أخ رامو) بطل دريدرو الغريب الأطوار، ممثل المقهى الايمائي الرائع، مع هؤلاء الفنانين، ها نحن نتحرر من الإثارة الهزلية مثلما نتحرر من الحسابات.. إن الضحك يكون مباغتاً، وغير ناجز، إنه إدهاش صاعق الذهن، ودارة قصيرة للاحتمالية ونابض مضغوط يجعلنا نرى من خلال كوة صغيرة، شيئاً ذا طابع عجيب فهذا بالطبع ما يفلت من تأثير الزمن.‏‏

كثير مما جرى تحليل عمل تاتي على الصوت... وقد اغتنى فهم علم السينمائي على اللون بصورة لافتة للنظر منذ أن غدت الألوان البدائية سهلة المنال . فالاكتشاف فيما يتعدى الانفعال، وهو استنارة قياساً إلى علم جمال أعماله بجملتها ، إن عناصر لغته قد جرى التفكير فيها وأرسيت أسسها بدءاً من أول فيلم طويل له. إن تاتي يرتاب باللون مثلما يرتاب بالكلمات فهو يختار ويلطف لكي يقدم دلالة أفضل، فمبدؤه هو : إن الأقل هو الأحس إلى الصوت، عن طريق اللون، بل عن طريق ضبط الصورة والتكوين .‏‏

إن تاتي يشتغل بصورة متزامنة على خمسة مسارات أو ستة ولكل منها منطقه، وتطوره المستقل ويحدث هذا الطفل الذي يفكك ويخفف سرعة الواقع عدداً لا متناهياً من الآفاق الجديدة، وانحرافات المعنى وضروب اللبس، واهتزازات الهوية التي تجعلنا نرى كل شيء في فرادته، وبصراحة وبشكل جديد.‏‏

الكتاب تأليف: مارك دونديه - ترجمة: زياد العودة- سلسلة الفن السابع - العدد 208 - قطع متوسط في 224ص.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية