تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوديب.. حضور الأسطورة في الأدب

كتب
الأربعاء 15-2-2012
كأن أوديب ولا يزال يحيا ويمكننا القول إنه يشكل جزءاً من عاداتنا في التفكير إلى درجة أمكننا أن نهتم في مؤلفات تحمل عنواناً موحياً مثل كتاب أوديب الإفريقي لماري سيسيل وإدمون أورتيغ.

أن نهتم بما يجري لأوديب تحت عنوان سموات أخرى .‏‏‏

وبوسعنا أن نقول عن أوديب مثلما نقول عن خرافة فينوس التي جرحها ديوميد لأن هذه القصة هي أيضاً قصة ضلال الفعل والهوى.‏‏‏

‏‏

وكما قال بريتون في كتابه الحب المجنون وإنه أمام قوة أسطورة كهذه تضمنها لنا قدرتها على الانتشار المباشر واستمرارها حتى عصرنا لا نستطيع أن نشك بأنها تعبر عن حقيقة أزلية عامة وأنها تترجم باللغة المجازية سلسلة من الملاحظات الثابتة الأساس التي لا يمكنها أن تقبل أي مجال لها غير مجال الوجود الإنساني.‏‏‏

هل أوديب أسطورة أم أدب؟ قد يكون هناك ما يغرينا كثيراً بمعارضة نص مروي معين يحكم عليه بأنه النص الأصلي لقصة أوديب بالنصوص المحاذية للأدب التي نمتلكها عنه، علينا بلا شك أن نتخلى عن هذه المعارضة .‏‏‏

إن البحث عن الأصول يتضح أنه غير مجد في هذا المجال وقد يكون من الأفضل أن يستقر رأينا بعد ماري ديلكور على الحكم بأنه ليس هناك أوديب أولي.‏‏‏

ومهما يكن المؤلف بمجمله قيماً وعلى جانب من الدقة فلا يمكنه مع ذلك إلا أن يوحي بالمزيد من الحذر لمن هو ليس بعالم آثار أو عالم أساطير أو مؤرخ للأديان وأياً كان أهل الأسطورة وأساسها سواء كان بطلاً أوبمرتبة الآلهة أو كانت على العكس من ذلك إلهاً ساقطاً أو ذكرى لأحد الطقوس أو رغبة في تفسير مشهد من مشاهد الطبيعة وفهمه فيبدو أن هذا الأصل وهذا الأساس يفلتان من التقصي ولابد لنا من الإقرار بأنه لا يمكن أن تكون لدينا نصوص مروية عن الأسطورة غير النصوص الأدبية أو النصوص المحاذية للأدب وإذا وضعنا جانباً الأيقنة التي تسمح بذكر هذا المقطع أو ذاك من الأسطورة وهي المقاطع التي لم يشأ الشعراء الإبقاء عليها.‏‏‏

في حال ضياع الروايات الشفوية تحديداً وهكذا فإن أقدم الآثار التي نمتلكها عن قصة أوديب تنتمي إلى الأدب إنها مقاطع من قصائد من مثل بعض الأبيات المتبقية من ملحمة أوديب وعروض موجزة لمآس ضاعت أو حوفظ عليها كما هو الحال بالنسبة للموجز الثاني لمأساة الفينيقيات ولموجز أرسيتوفان البيزنطي.‏‏‏

ونجد أيضاً تنويعاً سريعاً عند ايزيود في ديوانه: نسب الآلهة في البيت 326 وفي كتابه : الأعمال والأيام وكذلك عند بندار في الألعاب البيثارية الرابعة في البيت 476.‏‏‏

ثم يأتي عصر مؤلفي المأساة الثلاثة الكبار: اسخيلوس الذي ضاعت أول مأساتين له من ثلاثية لايوس وأوديب.‏‏‏

أما المأساة الأخيرة والوحيدة التي نمتلكها وهي سبعة ضد طيبة .‏‏‏

فقد جرى تمثيلها في ربيع عام 467 ق.م وندين له أيضاً بدراما هجائية ضاعت الآن واسمها أيول الهول وسوفوكل الذي قدم أوديب ملكاً حوالي عام 430 ق.م.‏‏‏

أما مأساة أوديب في كولون التي كانت آخر مؤلف له والتي كتبت كما يبدو عام 407 أو 406 ق.م.‏‏‏

فقد مثلت للمرة الأولى بعد وفاته عام 401 .‏‏‏

وأخيراً أرويبدو الذي ضاعت مأساتاه المسماتان (كريزيب وأوديب) والذي يعود تاريخ مأساته: الفينيقيات إلى عام 407 ويضاف إلى هذه النصوص ذكرى العديد من بقايا المؤلفات التي ضاعت الآن من مثل ملحمة طيبة وملحمة أوديب اللتين يفترض أنهما ألفتا انطلاقاً من أناشيد ملحمية أكثر قدماً .‏‏‏

ويضاف مؤلف الشاعر المأسوي فرنيكوس الذي ضاع أيضاً وربما يكون سابقاً لمؤلف اسخيلوس.‏‏‏

إن هذه البقايا هي مقاطع شعرية لا تكاد تتعدى بضعة أبيات بالنسبة لملحمة أوديب وعروض موجزة وملخصات وحتى تلميحات أعاد تدوينها المعلقون على المؤلفات القديمة أو رسامو الأساطير الذين لهم إسهام لا يمكن إغفاله إذ إننا ندين لهم أحياناً بالقليل الذي نعرفه عن المؤلفات التي كانت بالنسبة لمعاصريهم على جانب من الأهمية يعادل أهمية مأساة كريزيب وأوديب لاسخيلوس.‏‏‏

لعل السؤال الأول الذي يطرح نفسه إذاً بصدد أسطورة أوديب يتصل بحدودها، فأين تبدأ فعلاً قصة الملك أوديب ومتى تنتهي؟‏‏‏

في نظر سوفوكل الذي كان يسمى سوفوكل الورع والذي كانت تشغل ذهنه مسألة تبرير المشيئة الإلهية المستغلقة من خلال وحي السماء أقل مما تشغله مسألة إبراز انعدام اليقين في مصير إنسان يواجه السر الخفي لما يتجاوزه.‏‏‏

في نظر سوفوكل بدأت الأسطورة بالإنذار الذي نطقت به آلهة ذيلفس هيا أخبرني حين أتى صوت إلهي ليعلن لأبي عن طريق الوحي أنه سيهلك بيد أبنائه،‏‏‏

أخبرني كيف يمكنك وبحق أن تلومني على ذلك أن تلومني أنا، أنا الذي لم يكن والدي قد أنجبني بعد ولم تكن أمي قد حملت بي أنا الذي لم أكن قد ولدت بعد.‏‏‏

لابد أن نصل من الأسطورة إلى الأدب ولكن هل تخلينا عن الأدب قط؟ ألا ينبغي من باب أولى أن نعود إليه؟‏‏‏

يبدو في الواقع أن بقاء أوديب حياً لا ينفصل عن ذكرى سوفوكل في نظر المتخصصين بالأسطورة من حيث هي أسطورة.‏‏‏

إن البطل المأساوي هو حقاً الوجه الوحيد للبطل الأسطوري الذي ألفناه بعض الشيء.‏‏‏

ويمكننا حتى نؤكد أن الفلسفة مع هيغيل وهيدجر وأن الأدب بأكمله والتحليل النفسي ذاته وهذا أمر أكثر غرابة ومع أنه ينشئ خطاباً غدا مستقلاً.‏‏‏

وميض القصيدة‏‏‏

(من أين يأتي الأديب الذي يمضي؟ ومع ذلك فقد أحرز الفوز وانهارت أمامه الحكمة الجامدة).‏‏‏

مقطع شعري من قصيدة للفرنسي إيف بونغوا.‏‏‏

بما أن المأساة قريبة جداً من الأسطورة أو تشكل بذاتها جزءاً منها.. أكثر من أي شيء آخر فلم يكن بإمكانها إلا أن تتبع منعطفاتها.‏‏‏

وتظل الأبيات القليلة التي تبقت لنا من أشعار اسميلوس جزئية إلى درجة لا تتيح لنا معها الاستدلال على ما كان يمكن أن تكون عليه الصياغة الشعرية والمأساوية الأولى للأسطورة .‏‏‏

وهكذا فإن مأساتي سوفوكل بصرف النظر عن أي اعتبار تاريخي أو أي اعتبار للتسلسل الزمني يمكن أن تظهرا كأنهما المثال الأكثر صفاء للبلورة الأدبية بمجرد تطابقهما وحوداث حياة أوديب المعروفة.‏‏‏

لكن هذه البلورة لا تخلو مع ذلك من كونها تتضمن علاقة مزدوجة ليست علاقة أمانة فقط بل علاقة حرية وليست فقط علاقة تطابق مع المعطى الذي انتقل عن طريق التقاليد ولكنها أيضاً علاقة إبداع وصياغة لهذا المعطى في إعادة توزيعه، فما من شك أن المأساتين قد نشأتا هنا من التنظيم العبقري ومن تجميع ما ظل حتى ذلك الوقت مبعثراً في النصوص المروية الأخرى للأسطورة وسواء تعلق بأوديب ملكاً أو بأوديب في كولون فإن سوفوكل قد عرف كيف يضيف أو استطاع أن يضيف ثانية بنية القصيدة إلى ما كان يعرفه هو شخصياً ومعاصروه عن الأسطورة وعن وعيّ منه أم لا، فهو لم يستعن في هذه المهمة المخيفة إلا ببعض المؤثرات الوامضة للتركيب والتي ما كان لها أن تصدر إلا عن نظام الشعر وحده، وعلينا بلا شك أن نرى في ذلك فرقاً من أصح الفروق بين عمله وأعمال أكثر الكتاب الذي سيعمدون بعده إلى تناول أسطورة أوديب من جديد.‏‏‏

إنه فرق في النوعية وفي الشفافية ولاسيما في جرأة التصور وتداخل الأحداث، ففن سوفوكل وإذا قارناه بفن خلفائه الأكثر أمانة يبدو بصورة جوهرية وكأنه فن الإيجاز وإجمالاً كأنه من استخراج الصلات الشعرية التي تتيح وحدها تجنب التقدم البطيء للسيرة الأوديبية إن لم نقل تجنب المراوحة في المكان.‏‏‏

مؤلفة الكتاب (كوليت استييه) تقتطف من رسالة من شوبنهاور ورسالة إلى غوته بتاريخ تشرين الثاني 1815: (إن شجاعة المضي إلى نهاية المأساة هي التي تصنع الفيلسوف فينبغي للفيلسوف أن يكون مثل أوديب سوفوكل الذي من خلال سعيه لايضاح مصيره المخيف يتابع بحثه بلا كلل حتى حين يستشف أن الجواب لا يحمل له إلا الهول والرعب غير أن أكثرنا يحمل في قلبه جوكاستا تتوسل إلى أوديب حباً بالآلهة لكيلا يمعن في بحثه)‏‏‏

من القوانين التي تضمنها الكتاب (الأسطورة والشعراء ، الأسطورة والمأساة، المصائر الأوديبية، ينبوع ناضب أم نهاية أدب.‏‏‏

من الأدب إلى العلوم الإنسانية.‏‏‏

مواجهة أبي الهول، نصوص مختارة، تسلسل تاريخي.‏‏‏

الكتاب صادر عن وزارة الثقافة - أسطوة أوديب - تأليف: كوليت استييه - ترجمة: زياد العودة - قطع متوسط في 232 صفحة‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية