|
ثقافة (لو كانت الجنة على الأرض لكانت دمشق الجنة ولو كانت الجنة في السماء لكانت دمشق توءمها).
هل من مدينة في العالم أتخمت بالشعر والمديح كدمشق؟ وهل من مدينة نافست دمشق على عراقتها؟ منذ الألف الرابعة قبل الميلاد ابتدأ تاريخها؛ هي إحدى أقدم مدن العالم، التي يمر فيها نهر أطلق عليه العرب (بردى). ويقول العلماء إن كلمة (داماسك) تعود إلى حقب ما قبل ظهور الساميين، ويؤكدون على وجود تجمع سكني مديني يعود إلى الألف الرابعة قبل الميلاد. في القرن السادس عشر قبل الميلاد، وصل الحثيون، الذين كانوا يعيشون في الأناضول وشمال سورية، إلى منطقة هذا التجمع السكاني، وسموه بلغتهم (داماشيناز). وبعد مرور مائة وخمسين عاماً على ذلك، شن فرعون مصر تحوتمس الثالث حرباً ضد سورية واحتل مدينة دمشق، وأطلق عليها المصريون باللغة المصرية تسمية «تيماسك». ازدهرت دمشق في أيام الآراميين، الذين جاؤوا من صحراء شمال شبه الجزيرة العربية، بحثاً عن مناطق غنية. ويعود تاريخ هجرات الآراميين الكبرى من أراضي شبه الجزيرة العربية إلى مائتي عام، تقع بين القرنين الثالث عشر والثاني عشر قبل الميلاد. جاءت هذه الهجرات مترافقة مع التردي السياسي والعسكري للدولتين (مصر أيام الفرعون رمسيس الثالث 1198 1167 قبل الميلاد)؛ وأشوريا أيام تيغلات بالاصار الأول (1114 1076 قبل الميلاد)، اللتين كانتا تسيطران وتتحكمان بدولة سورية. ساعدت الظروف الآراميين الرحل للاستقرار في هذه المناطق الشاسعة. وتمركز الآراميون في هذه الأراضي، وبنوا ممالك صغيرة، تاجرت مع الهند في الشرق ومصر في الغرب، ولكنها لم تتوحد في يوم من الأيام. أصبحت دمشق، هذه المدينة/ الدولة الكبيرة عاصمة الآراميين منذ عام 940 قبل الميلاد، ووصلت إلى أكثر مراحلها قوة وجبروتاً - عسكرياً وسياسياً واقتصادياً - في القرن العاشر قبل الميلاد. بدأت القبائل الآرامية، تشكل خطراً على مملكة آشوريا، فقرر ملك آشور ناصربال الثاني (884ـ 849 قبل الميلاد) القيام بعدة حملات عسكرية ضد الآراميين. وعندما وضع حداً لغزوات قبائل الآراميين البدوية القاطنة في شمال سوريا وتوقفت عن غزواتها وسياستها الهمجية، باشر ملوك آشوريا ابتداء من آشور ناصربال الثاني توجيه ضرباتهم ضد دمشق الآرامية (داماسك)، التي كانت تمتلك أراضي شاسعة في بلاد سورية. افتقدت دمشق استقلالها السياسي، إلا أن ذلك لم يقف في وجه توسعها الثقافي والتجاري، بل ازداد انتشاراً حتى عم دول الشرقين الأوسط والأدنى. وساعد على ذلك سياسة ملوك آشوريا، التي قامت على استغلال شعوب الدول التي احتلوها. وبسبب حملات الأسر التي قامت بها آشوريا، ابتداء من مرحلة حكم الملك تيغلات بالاصار الأول (1114 1076 قبل الميلاد) حتى القرن الثامن قبل الميلاد، انتشر الآراميون في آشوريا لدرجة أنهم أصبحوا يشكلون غالبية السكان فيها، ما أدى إلى انتشار اللغة الآرامية في الكتابة بين الآشوريين. في القرن الثامن قبل الميلاد، اتحدت اللغتان الآرامية والآشورية بلغة واحدة، أصبحت لغة شعوب آشوريا، أما الأبجدية الآرامية فأصبحت، مع الكتابة المسمارية، واسعة الانتشار في آشوريا، حتى أطلق عليها «الأبجدية الآشورية». وفي القرن السابع قبل الميلاد، لاقت اللغة الآشورية الآرامية انتشاراً واسعاً في كل المناطق الواقعة بين نهري دجلة والفرات وسورية، ثم توسعت لتصبح اللغة الرئيسة للتجارة، ابتداء من مصر، وصولاً إلى الهند. وكانت أهمية تأثير الأبجدية الآشورية - الآرامية عظيماً، إلى درجة أنها دخلت إلى صلب أبجديات أغلب شعوب العالم، الأرمنية، الجيورجية، العربية، المنغولية والهندية. لم يؤد القضاء على الممالك الآرامية إلى اختفاء الآراميين من على مسرح تاريخ الشرقين الأدنى والأوسط، بل على العكس، إذ أمست اللغة الآرامية سلاحاً رئيساً للآراميين، بسبب أنها كانت لغة سهلة ومرنة ذات أبجدية سهلة الاستخدام، وشاعت بقوة من حدود الهند حتى مصر. احتل الإسكندر المقدوني سورية عام 333 قبل الميلاد. وبنى بعده وريثه سيلفيك الأول مدينة جديدة على ضفاف نهر العاصي، سماها باسم ابنته أنطاكيا. وانتقل مركز التجارة والسياسة إلى هذه المدينة، ذلك الذي كانت تمثله دمشق. واستلمت مدينة أنطاكيا زمام القيادة، التي كانت تتمتع بها دمشق. مع حلول العام 64 قبل الميلاد، احتل الروم سورية وحكموا دمشق حتى انقسمت إمبراطوريتهم إلى شطرين، انتقل الشطر الشرقي بما فيه دمشق إلى حكم البيزنطيين عام 395 قبل الميلاد، واستمر الحكم البيزنطي في سورية ودمشق حتى دخول القوات العربية، عام 634 بقيادة خالد بن الوليد دمشق. وبعد 26 عاماً، وفي عام 661، قرر الخليفة الأموي معاوية نقل عاصمة الخلافة العربية إلى دمشق. واستمر حكم الأمويين من عام 661 حتى عام 750. اتسعت حدود الخلافة الأموية خلال حكم معاوية ومن خلفه، وامتلكت أراضي شاسعة من المحيط الأطلسي حتى حدود الصين. توقفت دمشق، بعد عام 750، عن أن تصبح عاصمة للخلافة العربية، لكنها تابعت لعب دورها كمركز ثقافي هام. وما كادت الخلافة تنتقل من الأمويين إلى العباسيين (750 1258)، حتى سعى الأخيرون إلى سحب الامتياز الذي كانت تتمتع به دمشق. وأحرز العباسيون انتصارات كثيرة أهمها انتصارهم في مجال اللغة؛ حيث بدأت تسود اللغة العربية بالتدريج، وانتصرت على اللغة السورية الموروثة عن الآراميين. وما إن حلت نهاية القرن الثامن، حتى أصبحت سورية بكاملها تتحدث اللغة العربية، أما اللغة السورية (الآرامية) فحوفظ على الحديث بها في بعض المناطق المعزولة والنائية. دخل الصليبيون الشرق، ولكن دمشق لم تسقط في قبضتهم، بسبب من صمود الدمشقيين. واستطاعت دمشق رد الغزوات الصليبية، السلجوقية والمنغولية، مستمرة، رغم ذلك، في توسيع تجارتها وتنمية حرفها ومختلف أنواع فنونها. واستمر الأمر كذلك حتى القرن الرابع عشر. وحافظ الدمشقيون خلال مئات السنين على تقاليدهم في إنتاج الفولاذ الدمشقي والأسافين والسجاد والأقمشة والديباج والحلي الذهبية. وكانت الأسرة الدمشقية تسعى إلى المحافظة على أسرار تقاليد الحرف، وانتقلت هذه الأسرار من الآباء إلى الأبناء. في عام 1400 توقفت حياة السلام هذه، إثر اقتراب جيوش تيمورلنك من دمشق، التي احتلتها بعد شهر من المعارك. أقدم تيمورلنك على حرق 30 ألف شخص دمشقي في الجامع الأموي، وأسر أكثر حرفيي الذهب مهارة وأشد المحاربين قوة، وأخذهم معه إلى سمرقند، عاصمة بلاده في آسيا الوسطى. ولذلك لن ينسى الدمشقيون وحشية هذا الغازي ودمويته، مهما طال الزمن. |
|