|
مجتمع حرف يدوية وجدت لتلبية حاجة انسانية، مناهضة للقبح و باعثة للجمال تراث عريق، تحف تتحدى الخيال الذي يسر العين و يولد لدى المشاهد أعمق الاحاسيس و الانفعالات و لا زالت أسواق دمشق تحكي قصة الحرفة و تاريخها.
اليوم من الأهمية تسليط الضوء على هذه الشريحة، معلمو الحرف و المهن اليدوية بعيداً عن المفهوم الشائع، للمعلم المدرسي هؤلاء الجنود المجهولون الذي يجدر بنا الاشارة لجهودهم و أعمالهم اليدوية وإنتاجهم الفني الذي أثرى الحضارة و خيالهم الخصب في إبراز الأصالة و الابداع و الجمال في أشكال متعددة ومتنوعة. وقلما يخلو بيت من إنتاجهم.. حاجة وتحفة، هدفنا أن يحظى معلمو الحرفة باهتمام وقائي.. إجرائي لامناسباتي أو شعاراتي اليوم اخترت الكتابة في ثقافة العمل اليدوي، وذلك الموروث المحتقر للعمل اليدوي من خلال مصطلحي المهنة والحرفة و لا يكتمل الحديث دون التعرف على تاريخ الحرف اليدوية الدمشقية. الاستصغار لشأنهم كانت المجتمعات القديمة تميز عملاً من آخر فاليونان مثلاً كانوا يستهجنون العمل اليدوي و ويرى أفلاطون وأرسطو إن العمل اليدوي يتنافى مع ماهية الانسان و الموقف نفسه في حضارات بلاد الرافدين و عند الصنيين و الهنود و الرومان وكان سيشرون يرى أنه من غير الممكن لأي شيء نبيل أن يخرج من دكان أو ورشة. ومن العجب ان نجد فيلسوفاً لامعاً في منزلة نقشه يذم العمل و العاملين وينظر إليهم نظرة مليئة بالاحتقار و يؤكد على ضرورة الانصراف إلى العمل الفكري والمطالعة و كتابة الرسائل الطويلة، وهذا كله من شيم السادة الأقوياء هذا الموقف المزدري مستغرب إذ لا يمكن للمجتمع الاستغناء عن عمل أولئك الصناع، فصناع اليمن هم من كان يوفر للعرب السلاح الذي هو أهم ما يحتاجون إليه وقد وجد أعداء النعمان بن المنذر آخر ملوك الحيرة و حساده في أمه سلمى التي قيل : إنها ابنة قينا و صائغ سبباً قوياً من أسباب استهزائهم فيه والاستصغار لشأنه. ويؤكد د. نايف شقير في محاضرة بعنوان «ثقافة العمل بين المورث وآفاق التغيير، استمرار هذا الموقف المزدري حتى بعد أن تغيرت أحوال المجتمع وصارت الحياة تستدعي مثل تلك الصناعات، و مهنة الحدادة ومثلاً وهي من أكثر المهن التي اشتدت حاجة الناس إليها في حروب الفتوح و متطلبات الانسان ومتطلبات البنيان و النهوض، أصابتها سهام القدح و الذم مما يصاحب هذه الحرفة من قساوة في الحرارة و مشقة في العمل وقذارة في المظهر واستغل اليهود أنفة أهل يثرب من الاشتغال بالصباغة والحدادة فاحتكروها لأنفسهم وربحوا منها ربحاً كبيراً.
وجهد الاسلام في اقناع المسلمين أن العبء يقع على كاهل الجميع فإذا لم ينهض المسلمون بالعمل فمن أين نأتي بعمال، وبناء الدولة يحتاج إلي تضافر كل الجهود الفكرية و العضلية ولافرق في ذلك ولأن العمل المهني و الفني و التقني ضرورة اجتماعية وحضارية وتزداد أهميته بفعل عوامل التطور التقني والتغيير الاجتماعي والثقافي السريع وجب علينا تعزيز ثقافة المهنة و سلوكنا و تربيتنا لأولادنا مسؤولية في المقام الأول. اليوم نحن بأشد الحاجة إلى الانتاج بعيداً عن الاستهلاك لنأكل ونلبس من كدحنا وكفاحنا و صنع أيدينا و إنتاج بلدنا. الحرف اليدوية الدمشقية... تراث عريق اشتهرت دمشق منذ القديم بأعمال النسيج وحرف الزجاج وصنع الأواني وبلغت آفاق الشهرة في حرف التصنيع والمعادن وفنون العمارة والفسيفساء الحجرية والزجاجية واحتضنت الحرف بأسواق تعرض فيها سلعها ونفائسها ولازالت أسواق دمشق تحكي قصة الحرفة وتاريخها والذي تناولها العديد من المهتمين بالبحث والدراسة ومنهم الأستاذ عربي العاصي حيث أفادنا: يعد النسيج من أمهات الحرف السورية إذ يتمتع بالأصالة والأهمية والتفرغ والتنوع والارتباط بعدد كبير من الحرف الملحقة والتي فتحت المجال أمام عمل المرأة وهاهي الكبابة حرفة نسوية تأخذ شلل الحرير الخام من التاجر وتقوم على تفريغها وحلها ولف خيوطها الحريرية وحسبما ذكر شيوخ الحرفة فإن أسماء الأصناف الحريرية وأنواعها تتحدد حسب نوع الخيط واللون والزركشة والنقشة وطبيعة الاستعمال ومكان الصنع فالدامسكو أنواع عديدة من حيث النقوش والرسوم منها: الأطلس والمنير والمعمد والمعرج والمطير والمخيل. والبروكار مثل الدامسكو يصنع من الحرير الطبيعي على أنوال يدوية دوس وكانت الرسوم تغل غلاً باليد والإبرة أما الأغباني والبرقع وغيرها من الأقمشة ويدخل في عداد هذه الحرف التطريز وحرفة السجاد والبسط التي تدهش الناظر من حيث الدقة الفنية والرسوم البديعة. حرف النجارة ... مظهر حضاري وثمة أمور جعلت من الأخشاب من الحرف المتقدمة في الحياة الاجتماعية منها وفرة الأخشاب وذكر بعض أنواع من الأخشاب في القرآن الكريم (التين والزيتون والنخل) مماأعطاه قدسية على غيره وتجاوز الحرف التقليدية المعروفة مثل النجار والنشار والسراريري والصناديقي إلى الحرف الفنية التي تعتمد الزخرفة الهندسية والكتابية والنباتية مثل الحفر والتنزيل والتطعيم والتفريغ والتعتيق والموازييك والخيوط.. وتمتزج الزخرفة بالتذهيب والتلوين إلى حد فائق من الكمال والبهاء . وتزين بعض الجدران والسقوف بحشوات خشبية ذات أشكال هندسية تزيد من جمال الزخرفة وتطعم بعض الأعمال بوضع قطع من المرايا خلف بعض الحشوات ممايضفي على العمل بهاء وجمالاً زائدين. ويعد هذا العمل فناً متميزاً تعتز به دمشق ولاسيما قاعة الشرف في مطار دمشق الدولي التي صممت على الطراز الشرقي بطابعه الزخرفي العربي الأصيل بطريقة الحفر والتنزيل والخيط العربي والدهان ، فجاءت القاعة بحق بيتاً دمشقياً عريقاً بجماله وأثاث مفروشاته وسقوفه ودواوينه وطاولاته لايضاهيه مثيل جودة وإتقاناً .كيف لاوهو في قلب دمشق ونافذتها وسفيرها إلى العالم (دشنت في شباط 1983 واستغرق تنفيذ العمل نحو أربعة أعوام). والخيط العربي يكون على أشكال هندسية مضفورة ويعود هذا الخيط إلي أيام الخلافة الأموية إذ زينت أبواب الجامع الأموي به وفي أعمال الحفر يمكن أن تجمع كل أساليب المدارس الفنية في الأعمال الجدارية إذ تنساب فيها الأساليب العباسية والأيوبية والعربية والفاطمية وترتبط حرفة التنزيل على الخشب بحرفي دمشقي يدعي جورج بيطار حينما تأمل روائع الفسيفساء في الجامع الأموي اقتبس فكرتها من العاملين في إصلاح بعض لوحات الفسيفساء وحاول تطبيقها في الخشب بالموزاييك وكان لتلك المحاولة الناجحة والجريئة فضل في إضافة مجد جديد وفتح مديد لروائع الحرف السورية . الخزف والفخار والزجاج للفخار والخزف طابع البساطة في تشكيله وحرقه والتراب أو الطين مادة أساسية لإنتاجه والقاشاني من روائع الفخار الملون وهناك من تحف القيشاني لايزال محتفظاً بجماله منذ مئات السنين وسمته الرئيسية هي زخارفه النباتية ونقوشه. وكان للمرأة نصيب وافر من حرف القش والقصب وتقوم هذه الحرف على تصنيع الحصر والأطباق وغيرها من القش وإن اقتصرت حرف المعادن والتعدين على الأسلحة في بداية الأمر إلاأنها تطورت واتخذت أشكالاً فنية حرفية منها على سبيل المثال تنزيل الذهب والفضة على السيوف والصحون. وتبقى الفسيفساء من أهم الفنون الزخرفية وأبهى الفنون الحرفية التي سادت منذ القديم وعرفت باسم الألف ورقة والفسيفساء في الجامع الأموي في دمشق خير شاهد على ذلك ناهيك عن الشواهد التاريخية الكبيرة المنتشرة في سورية. هي دعوة لمعلمي الحرف التراثية والمهن اليدوية لترسيخ الهوية الثقافية والحضارية والحفاظ على الصناعات الشعبية من الضياع والنهوض بها لتلبية حاجة المجتمع بعد أن صارت تباع للأجانب ومحبي التراث. |
|