تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


قطرة ماء أندرسن

آراء
الاربعاء 4/7/2007
نهلة سوسو

في حكاية لأندرسن , حكاية قصيرة ومذهلة سماها (قطرة الماء) يروي الكاتب قصة عن رجل هرم اسمه (كريبلي كرابلي) ,

جلس ذات يوم ينظر عبر مجهره إلى قطرة ماء أخذها من حفرة, فكان أن رأى منظراً عجباً: رأى آلاف الكائنات الصغيرة تقفز عن بكرة أبيها وتثب في الماء, ويبتلع أو يمزق بعضها بعضاً, قال لنفسه: إن هذا لشيء مرعب, لابد أن يكون ثمة وسيلة تجعل هذه المخلوقات تعيش في سلام وهدوء! فكر وأطال , لكنه لم يهتد إلى الرأي السديد, وأخيراً قال يجب أن أخلع عليها لوناً, فأستطيع بذلك أن أراها خيراً مما أراها الآن, ثم أنزل في الماء قطرة ضئيلة من شيء يشبه النبيذ الأحمر, وكان ما أسقطه في الواقع قطرة من دم الساحرات فاصطبغت على الأثر كل هذه المخلوقات العجيبة باللون الأحمر, ولاحت قطرة الماء كأنها بلدة من رجال متوحشين عراة! استفسر منه ساحر هرم آخر مرّ به: ما الذي تفعله? أجاب : لو عرفت ما أفعله لأعطيتك إياه, ولكن أنذرك أنك لن تهتدي إليه بسهولة نظر الساحر عبر المجهر فإذا بالمنظر الذي انكشف لعينه مخلوقات تلكز وتقاتل وتجذب وتعضّ بعضها بعضاً, وكان كل الأدنين , يجاهدون كي يصبحوا الأعلين , والكل يسعون ليسقطوا الأعلين من عليائهم, وكانت المخلوقات تصيح: هذا ساقه أطول من ساقي فلتبتر! وذاك له عرمة صغيرة خلف أذنه, عرمة صغيرة لاذنب لها, لكنها تؤلمني ويجب أن تؤلمه أكثر, ثم ينقضون عليه ويبترونها, ويمسكون به ويبتلعونه من جراء هذه العرمة الصغيرة فحسب!‏

كان بين هذه المخلوقات مخلوق واحد ظل هادئاً ساكناً يجلس وحده كأنه آنسة حيية صغيرة لاتنشد غير الهدوء والراحة, بيد أن الآخرين لم يرضهم هذا, فجرُّوا الآنسة الصغيرة ولطموها وأثخنوها جراحاً , ثم أكلوها. قال الساحر: هذا مضحك للغاية, فسأله كربيلي: أتظن هذا? قل لي ماذا رأيت ? أجاب الساحر: الجواب بسيط فهذه إما مدينة كوبنهاغن وإما مدينة أخرى كبيرة لا أعلم ما هي, لأن المدن جميعاً سواسية! إنها إحدى المدن الكبرى هكذا عبّر أندرسن عن فساد الأخلاق في المدن الكبرى, وأي تعبير كهذا التعبير يختزل صراع البشر وتنافسهم على المراتب والمناصب والمال والمكانة? وأنا كلما حاولت تحليل بعض وقائع ما يجري في أجوائنا الثقافية, بل الإعلامية بشكل خاص, قفزت أمامي قطرة ماء أندرسن العبقرية , حيث تساعدني على فهم الحروب النفسية والتفنن بالتشهير والقتل المعنوي, والتهام الأطراف, وتسابق الأدنى لاحتلال مكان الأعلى, والألم الفردي الذي يجب أن يؤلم الآخرين أكثر من صاحبه, أما من ينشد الهدوء والراحة فيجب أن يلطم ويثخن بالجراح ثم يؤكل بطريقة ما.. وإذا كان زمن أندرسن هو القرن الثامن عشر فإن وطيس معارك القرن الحادي والعشرين أشد وطأة مع المبتكرات الجديدة للنزال كالهاتف الجوال والإنترنت..‏

صبية اختارت زميلاً لها لعمل خاص لبراعته في عمله , هذا عمل جيد لاتسامه بالموضوعية كي يكون الناتج أجود! وجدت نفسها والعمل لما يبدأ بعد, في ساحة معركة أشعلها زميل آخر راعه ألا يكون المختار. استفادت من القصة زميلة منافسة فأخبرت أهل الزميل أنه سقط ضحية عنكبوت سوداء تغوي الفتيان, وقد التهمت قبله الكثيرين مستغلة براءتهم, وانعدام تجربتهم. أفاقت الصبية على مرابض إطلاق نار من كافة الجبهات: أهل الفتى, الإدارة, الزملاء, وانشغلت بالدفاع عن نفسها, وردّ الاتهامات والتهديدات , ولم ينفع منطق الأشياء (الزميل أصغر منها بكثير) في إطفاء النار المستعرة طيلة شهور بين أخذ ورد, حتى استنفدت طاقتها ونسيت عملها, وفقدت بالضرورة صفاء علاقتها بذاك الزميل وقد همدت بعد أن أدمتها الجراح وعلمتها ألا تفكر مرة ثانية بمد يدها إلى عش الدبابير فتاة موهوبة متفتحة, مثقفة جاءت واعدة إلى جو المنافسات, تلقفتها إحدى الزميلات المتقاعدات , الناشطات في الهمس على الهواتف, والجري بين المكاتب, والحضور اليومي إلى أطلال ماضيها المهني, وبدأت (تنكش) هنا و(تحضر) هناك , حتى سقطت الفتاة الموهوبة بين مطبات الأنظار والوشوشات الشكاكة , المتسائلة, وانهارت لكأنها بحق الآنسة الصغيرة المسالمة التي لطمت وأثخنت بالجراح في قطرة ماء أندرسن.. حكايات تفوق ألف ليلة وليلة عدداً ومضموناً , عن أولئك الذين احترفوا التدمير الغريزي للآخرين, وصلب وجبار وأسطوري ذاك الذي يحصن نفسه, ويواصل عمله بنجاح وتركيز, حتى لو فقد ذراعاً, أو ساقاً أو عرمة صغيرة وراء أذنه, من مهاجمين غير مرئيين.. لكن ما رأي علماء الاجتماع بهذه المشكلة? أهي نتاج أخلاقيات المدن حقاً أم أنها بقايا غرائز الانسان البدائي تطفو في زمن , يفترض أنه ارتقى بعلوم وفنون العصر, وهذب روح الانسان, وقدم له وسائل الإعلام ليكون الحب والتواصل محمولاً بسرعة الضوء.. لاساقطاً في ماء حفر!.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية