تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عن الحب

آراء
الاربعاء 4/7/2007
هيفاء بيطار

معظم الناس يؤرقهم موضوع الحب , وحين يفكرون أو يتحدثون عنه , يكون هاجسهم كيف يكونونمحبوبين , ونادراً ما يفكرون كيف يُحبّوا ?...

وفي عصر العولمة الذي طرح مفاهيم جديدة وموّحدة ليس لنمط الحياة فحسب إذ صار هدف الناس أن ينفقوا أكثر وأكثر , وأن يترفهوا وفق معايير معينة , فأصبحت الأذواق متساوية تقريباً , كذلك نمط الحياة من حيث الطعام واللباس وتمضية الاجازات ... خطورة العولمة انها جعلت الإنسان ينظر إلى حياته كاستثمار عليه ان يجني منه اكبر ربح , أما كيف تتحول الحياة إلى استثمار فهي ان يعمد الإنسان إلى إشباع كل حاجاته , فليس هناك إشباع سوى إشباع الاستهلاك , وقد تنبّه الفيلسوف الشهير هكسلي لهذا الأمر وعالجه في كتابه المهم : العالم الجديد إذ قال :‏‏

بأن الإنسان الحديث يتغذى جيداً , ويكتسي جيداً , ويُشبع رغباته الجنسية ومع ذلك فهو بلا روح !‏‏

ويوضح هكسلي بأن العالم صار موضوعاً كبيراً لشهوات الإنسان , انه أشبه بتفاحة كبيرة , قنينة كبيرة , جَسَد ناضج , وقد جُهزّت شخصيتنا للمقايضة والاستهلاك , فكيف يصبح الحب في هذا الزمن زمن شعاره إشباع الحاجات والاستهلاك في أعلى مستوياته ?!‏‏

‏‏

ويرى هكسلي وغيره من علماء النفس مثل اريك فروم ان شكل الحب قد تغير في عصر العولمة , وان تلك الحضارة الحديثة القائمة على شهوة الشراء وإشباع الحاجات , لدرجة يربط الكثير من الناس الصحة النفسية والنجاح بمدى إشباع هذه الحاجات .‏‏

ان إنسان اليوم يفقد فرديته شيئاً فشيئاً , فالكل صار لهم المتع نفسها ويقرؤون الصحف نفسها , ويشعرون تجاه الأحداث بالمشاعر نفسها , وأصبحوا متساويين مساواة الآلات , وهذه المساواة التي تسمى الواحدية في علم النفس , هؤلاء الأشخاص ينظرون للحب كما لو انه جائزة يسعون للحصول عليها , فالمرأة الجذابة - وفق معايير معينة - هي جائزة يسعى الرجل للحصول عليها , كما ان الرجل الجذاب - وفق معايير معينة - هو بدوره جائزة تسعى المرأة للحصول عليها .‏‏

وكل من الرجل والمرأة يفتش عن نصفه الآخر بالحماسة ذاتها التي يبحث فيها عن سلعة في السوق , بل ان عصر العولمة طرح تعبير الفريق ليعبّر عن الزواج السعيد , كما لو ان الرجل والمرأة يشكلان تحالفاً ما , وقد يعيشان معاً ضمن مؤسسة الزواج - او حتى دون رابط رسمي - ويعاملان بعضهما بكياسة لكن يظلان غريبين عن بعضهما طوال حياتهما , لأن جوهر الحب مفقود , الحب الذي يعني ان ينفتح الانسان روحياً ووجدانياً على الآخر , وليس ان يتحوّل الآخر إلى وسيلة لإشباع حاجات جنسية وطموحات معينة .‏‏

في عصر العولمة صار أساس اختيار الشريك لشريكه هو : ماذا يمكنني ان استفيد منه ? ماذا سيقدّم لي ? جوهر الحب في عصر العولمة هو الاستفادة , أي ان الشريك موجود بغرض خدمتي وراحتي .‏‏

تغريب مفهوم الحب عن حقيقته بمعنى ان الإنسان لا يُحّب بل يُستخدَم تحت خداع الحاجة للحب , هو مرض العصر الأشد خطورة من السرطان , لأن الحب ليس محطة للراحة والاسترخاء , بل هو نمو روحي ووجداني وتحرّك دائم باتجاه الآخر .‏‏

ويبين ايريك فروم في كتابه الرائع ( فن الحب ) ان الشرط الرئيسي لتحقق الحب هو قهر الأنانية الشخصية , وان يتمكن كل شريك من احترام الآخر وطموحاته وتوجهاته , ومساعدته أن يحقق ذاته .‏‏

ان إقامة علاقة حب دون وجود استغلال مبطن أمر صعب للغاية , وجود علاقة حرّة نقية في هذا الزمن , ليس فيها هيمنة ولا تملك ولا استغلال ولا نظرة للآخر على انه موجود لخدمتي , شيء شبه مستحيل .‏‏

وليس غريباً ان كثيراً من المدارس في الغرب , أدخلت إلى مناهجها المدرسية مادة تعلم الطلاب كيفية احترام الآخر , وكيفية التعامل مع الحياة . بل وكيف يجب ان ننظر إلى أنفسنا , فحياتنا ليست مشروعاً للاستثمار والآخر ليس مطية لبلوغ أهدافي وطموحاتي , والحياة ليست تفاحة كبيرة شهية يجب ان نلتهمها .‏‏

ان كتب مثل العالم الجديد لهلسكي , وفن الحب لإريك فروم وغيرها من الكتب التي تعيد الأصالة والاحترام للذات الإنسانية , مهمة جداً ويجب ان تدرس في المدارس وان تسلط عليها الأضواء , كي نساعد الأجيال الشابة خاصة على مقاومة رياح العولمة الخطيرة , وكي نُعيد للحب غايته وألقه الحقيقي , بدل الأضواء الزائفة المُسلطة عليه .‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية