|
آراء وفي عصر العولمة الذي طرح مفاهيم جديدة وموّحدة ليس لنمط الحياة فحسب إذ صار هدف الناس أن ينفقوا أكثر وأكثر , وأن يترفهوا وفق معايير معينة , فأصبحت الأذواق متساوية تقريباً , كذلك نمط الحياة من حيث الطعام واللباس وتمضية الاجازات ... خطورة العولمة انها جعلت الإنسان ينظر إلى حياته كاستثمار عليه ان يجني منه اكبر ربح , أما كيف تتحول الحياة إلى استثمار فهي ان يعمد الإنسان إلى إشباع كل حاجاته , فليس هناك إشباع سوى إشباع الاستهلاك , وقد تنبّه الفيلسوف الشهير هكسلي لهذا الأمر وعالجه في كتابه المهم : العالم الجديد إذ قال : بأن الإنسان الحديث يتغذى جيداً , ويكتسي جيداً , ويُشبع رغباته الجنسية ومع ذلك فهو بلا روح ! ويوضح هكسلي بأن العالم صار موضوعاً كبيراً لشهوات الإنسان , انه أشبه بتفاحة كبيرة , قنينة كبيرة , جَسَد ناضج , وقد جُهزّت شخصيتنا للمقايضة والاستهلاك , فكيف يصبح الحب في هذا الزمن زمن شعاره إشباع الحاجات والاستهلاك في أعلى مستوياته ?!
ويرى هكسلي وغيره من علماء النفس مثل اريك فروم ان شكل الحب قد تغير في عصر العولمة , وان تلك الحضارة الحديثة القائمة على شهوة الشراء وإشباع الحاجات , لدرجة يربط الكثير من الناس الصحة النفسية والنجاح بمدى إشباع هذه الحاجات . ان إنسان اليوم يفقد فرديته شيئاً فشيئاً , فالكل صار لهم المتع نفسها ويقرؤون الصحف نفسها , ويشعرون تجاه الأحداث بالمشاعر نفسها , وأصبحوا متساويين مساواة الآلات , وهذه المساواة التي تسمى الواحدية في علم النفس , هؤلاء الأشخاص ينظرون للحب كما لو انه جائزة يسعون للحصول عليها , فالمرأة الجذابة - وفق معايير معينة - هي جائزة يسعى الرجل للحصول عليها , كما ان الرجل الجذاب - وفق معايير معينة - هو بدوره جائزة تسعى المرأة للحصول عليها . وكل من الرجل والمرأة يفتش عن نصفه الآخر بالحماسة ذاتها التي يبحث فيها عن سلعة في السوق , بل ان عصر العولمة طرح تعبير الفريق ليعبّر عن الزواج السعيد , كما لو ان الرجل والمرأة يشكلان تحالفاً ما , وقد يعيشان معاً ضمن مؤسسة الزواج - او حتى دون رابط رسمي - ويعاملان بعضهما بكياسة لكن يظلان غريبين عن بعضهما طوال حياتهما , لأن جوهر الحب مفقود , الحب الذي يعني ان ينفتح الانسان روحياً ووجدانياً على الآخر , وليس ان يتحوّل الآخر إلى وسيلة لإشباع حاجات جنسية وطموحات معينة . في عصر العولمة صار أساس اختيار الشريك لشريكه هو : ماذا يمكنني ان استفيد منه ? ماذا سيقدّم لي ? جوهر الحب في عصر العولمة هو الاستفادة , أي ان الشريك موجود بغرض خدمتي وراحتي . تغريب مفهوم الحب عن حقيقته بمعنى ان الإنسان لا يُحّب بل يُستخدَم تحت خداع الحاجة للحب , هو مرض العصر الأشد خطورة من السرطان , لأن الحب ليس محطة للراحة والاسترخاء , بل هو نمو روحي ووجداني وتحرّك دائم باتجاه الآخر . ويبين ايريك فروم في كتابه الرائع ( فن الحب ) ان الشرط الرئيسي لتحقق الحب هو قهر الأنانية الشخصية , وان يتمكن كل شريك من احترام الآخر وطموحاته وتوجهاته , ومساعدته أن يحقق ذاته . ان إقامة علاقة حب دون وجود استغلال مبطن أمر صعب للغاية , وجود علاقة حرّة نقية في هذا الزمن , ليس فيها هيمنة ولا تملك ولا استغلال ولا نظرة للآخر على انه موجود لخدمتي , شيء شبه مستحيل . وليس غريباً ان كثيراً من المدارس في الغرب , أدخلت إلى مناهجها المدرسية مادة تعلم الطلاب كيفية احترام الآخر , وكيفية التعامل مع الحياة . بل وكيف يجب ان ننظر إلى أنفسنا , فحياتنا ليست مشروعاً للاستثمار والآخر ليس مطية لبلوغ أهدافي وطموحاتي , والحياة ليست تفاحة كبيرة شهية يجب ان نلتهمها . ان كتب مثل العالم الجديد لهلسكي , وفن الحب لإريك فروم وغيرها من الكتب التي تعيد الأصالة والاحترام للذات الإنسانية , مهمة جداً ويجب ان تدرس في المدارس وان تسلط عليها الأضواء , كي نساعد الأجيال الشابة خاصة على مقاومة رياح العولمة الخطيرة , وكي نُعيد للحب غايته وألقه الحقيقي , بدل الأضواء الزائفة المُسلطة عليه . |
|