|
ملحق ثقافي والكونفوشيوسيين و..غيرهم، فنقرأ عن الصابئة مثلاً أنهم لم يؤمنوا بفكرة وجود أو ضرورة وجود أي رابط مخلوق مما أوجدته الديانات والفقهاء من بعدها يمكن أن يساهم في اقتراب العبد من ربه والسبب برأيهم (أن بإمكان كل إنسان الاتصال بالباري، بواسطة الروحانيات إذا ما تخلص من بدنيّته بالطقوس والعبادات والزهد بعالم الجسمانيات. ولقد استنكر الصابئة أن يتخيّر الباري واحداً من البشر دون غيره لتوصيل رسالته)(1).
لنمعن في أبجديات نظريتهم تلك وما فتحوه من آفاق لكل من يمتلك طاقات الوصول إلى الباري.. ونقرأ مثالاً آخر مما جاء في كتاب الإيثولوجيا - لأرسطو والمذكور في كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين للفارابي والمنقول من كتاب للدكتور جميل صليبا بعنوان من أفلاطون إلى ابن سينا، نقرأ عن حالات كان يعيشها آنذاك فيلسوف الفلاسفة من تحليق وغيابات في الملأ الأعلى ومكابداته.. ونجري مقاربة بسيطة بينها وبين تجارب المتصوفة يقول أرسطو: إني ربما خلوت بنفسي كثيراً، وخلعتُ بدني، فصرت كأني جوهر مجرد بلا جسم، فأكون داخلاً ذاتي، وراجعاً إليها، وخارجاً من سائر الأشياء سواي، فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعاً فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما بقيت متعجباً منه، فأعلم عند ذلك أني من العالم الشريف جزء صغير، فلما أيقنت بذلك ترقيت بذهني من ذلك العالم، إلى العالم الإلهي فصرت كأني هناك متعلق به، فعند ذلك يلمع لي من النور والبهاء ما تكل الألسن عن وصفه والآذان عن سمعه، فإذا استغشى في ذلك النور، وبلغ الطاقة، ولم أقوَ على احتماله، هبطت إلى عالم الفكرة، فإذا صرت إلى عالم، حجبت عني ذلك النور..( 2) لنسأل الآن وبكثير من الجرأة والوضوح هل ابتعد أرسطو فيما عاشه وعايشه من حالات ومكابدات ومجاهدات عما جاءت به كتب المتصوفة..؟؟ لنعود ونسأل بعد ذلك عن تلك الامتدادات التاريخية للصوفيّة.. هذه الكلمة أو النظرية في عالمنا العربي أو الإسلامي ونقول: هل الصوفيّة هم الذين نذروا أنفسهم لله وعبادته كأضحية؟؟ وما تعنيه هذه الكلمة من دلالات في ذاكرتنا الجمعية؟؟ وهل يُفهم أن من لبس الصوف ما هي إلا إشارة على أنهم قرابين في معبد الخالق؟! متناسين أو ناسين ذواتهم المأخوذة لا بل المنذورة كقطعان الضأن وهم كذلك بحضرة أو أمام مالكهم وراعيهم الأوحد... وإلخ من قراءات يمكن أن تتعدد في غير موضع... وفي قصة الغوث بن مر- من العصر الجاهلي - المذكورة في أكثر من مرجع تاريخي وعلى سبيل المثال لا الحصر ما ذكره ابن الجوزي (إنما سمى الغوث بن مر صوفا لأنه ما كان يعيش لأمه ولد، فنذرت لئن عاش لتعلق برأسه صوفة و لتجعلنه ربيط الكعبة ففعلت فقيل له صوفة ولولده من بعده) (3)
فكلمة (صوفي) متداولة ومتناقلة منذ أمد العصور ما هي إلا دليل على الامتدادات التاريخية لها.. ويمكن العودة في هذا الإطار لأهم المراجع مثل (اللمع لسراج الطوسي والتعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي والطبري وابن حديد في شرحه لنهج البلاغة). والحديث عن تاريخ ونشأة التصوف وارتكازاته يطول جداً تاركين ذلك لغير موضع، ولكن لا بد من القول بأنه (أي الصوفي) اسم غير محدث وهو قديم وقديم جداً. ونذكر هنا رد الطوسي أبو النصر سراج في كتابه اللمع على من قال: لم نسمع بذكر الصوفية في القديم وهو اسم محدث.. إن سأل سائل فقال: لم نسمع بذكر الصوفية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، ولا فيمن كان بعدهم، ولا نعرف إلا العباد والزهاد والنساك والسياحيين والفقراء. وما قيل لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوفي، فنقول وبالله التوفيق: الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لها حرمة، وتخصيص من شمله ذلك فلا يجوز أن يعلق عليه اسم أنه أشرف من الصحبة، وذلك لشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمته. ألا ترى أنهم أئمة الزهاد والعباد والمتوكلين والفقراء والراضين والصابرين والمخبتين، وغير ذلك وما نالوا جميع ما نالوا إلا ببركة الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نسبوا إلى الصحبة التي هي أجل الأحوال واستحال أن يفضلوا بفضيلة غير الصحبة التي هي أجل الأحوال وبالله التوفيق. ويتابع بالقول.. وأما أنه اسم محدث أحدثه البغداديون، فمحال لأن في وقت الحسن البصري رحمه الله كان هذا الاسم وكان الحسن قد أدرك جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم جميعاً، وقد روي عنه أنه قال: رأيت صوفياً في الطواف فأعطيته شيئاً فلم يأخذ وقال: معي أربعة دوانيق فيكفيني ما معي..(4) وفي اللغة ومعاجمها واصطلاحاتها ما يؤكد ما ذهبنا إليه فماذا قالت بعض المعاجم في التصوف والصوفية..؟؟!! مثلاً، جاء في المحيط في اللغة: صَوْفَةُ هي من بني تميم وهم الصوفان وكانوا يجيزون الناس من عرفات.. وصاف عني يصوف صوفاً أي عدل وكذلك يصيفُ. وجاء في تاج العروس من جواهر القاموس: أن آل صوفان كانوا يخدمون الكعبة وينسكون، ولعلّ الصوفية نسبت إليهم وتشبيهاً بهم في النسك والتعبد أو إلى أهل الصفّة فيقال مكان الصفية. والصوفية بقلب إحدى الفاءين واواً للتخفيف أو إلى الصوف وهو لباس العبّاد وأهل الصوامع. وجاء في الوافي – معجم وسيط اللغة: تصوف فلان صار صوفياً وتخلّق بأخلاق الصوفية فهو متصوف.. والصوفيّ عند المتصوفين من هو فانٍ بنفسه وباقٍ بالله تعالى مستخلص من الطبائع متصل بحقيقة الحقائق... وجاء أيضاً التصوف هو تصفية القلب عن موافقة البريّة ومرافقة لأخلاق الطبيعة وإخماد الصفات البشريّة ومجانبة الدعاوى النفسانية ومنازلة الصفات الروحانية والتعلق بعلوم الحقيقة. وفي لسان العرب جاء: الصوف للضأن والصوفة أخص... ثم جاء الصوفة كل من ولي شيئاً من عمل البيت الحرام وهم الصوفان وصوفة.. أبو حي من مضر وهو الغوث بن مر كانوا يخدمون الكعبة في الجاهلية. أما الموسوعة الفلسفية فقد أفردت عدة تعاريف مهمة للتصوف والصوفية، والصوفية الإشرافية والزهد و...الخ نذكر منها على سبيل المثال: التصوف: نظرة دينية مثالية للعالم ويرجع أصل التصوف إلى الطقوس (الأسرار) التي تؤديها الجمعيات الدينية في الشرق والغرب قديماً والصفة المتضمنة في هذه الطقوس هي الاتصال بين الإنسان والله والاتحاد بالله.. المفروض فيه أن يتحقق بالوجد أو الكشف وعناصر التصوف موجودة في العقائد الفلسفية الدينية القديمة مثل (الكونفوشية والبراهمانية و الفيثاغورية والأفلاطونية و..الخ ويعتبر الفلاسفة المتصوفون الكشف هو نوع من الحدس الصوفي أسمى شكل للمعرفة وفيه يتم إدراك الشخص للوجود بشكل مباشر)(5) الصوفية: هي تعاليم دينية صوفية في الإسلام نشأت في القرن الثاني وانتشرت في البلدان العربية في عهد الخلفاء وكانت في عهدها الأول تتميز بالنزعة إلى وحدة الوجود مع بعض عناصر مادية وبعد ذلك وتحت تأثير الأفلاطونية الجديدة والفلسفة الهندية والأفكار المسيحية سيطر الزهد والتصوف المتطرف على الصوفية. وكانت الصوفية تقبل وجود الله باعتباره الواقع الأوحد على كل الأشياء والظواهر فيض عنه، وتبعاً لذلك فإن الهدف الأسمى للحياة هو الاتحاد بالذات الإلهية من خلال الوجد والتأمل. وكان من أبرز دعاة الصوفية الفيلسوف الفارسي السهروردي (القرن الثاني عشر) والمفكر العربي الغزالي ( 1059 -1111 ) والفيلسوف الأسيوي صوفي آلايار (المتوفى 1720 ) وغيرهم(6) في كل الأحوال نقول إن ثمة تعاريف وتعاريف متراكمة هنا وهناك تختلف حيناً وتتشابه حيناً لكنها لا تتطابق فيما بينها بالمطلق إلا في حيثيات هنا وهناك، ولا يمكننا الخروج بتعريف قاطع مانع يضعنا وغيرنا في صورة كلية عن ماهية التصوف. ومن هنا تأتي أهميته وإشكالياته. وكما تبين لنا وسيتبين لاحقاً أن ثمة متعاطفين ومؤيدين يرون في المتصوفة أنهم من المصطفين إلهياً لمنحهم قدرات وطاقات وإشراقات تمكنهم من الوصول والمشاهدة والحضور.. بقلوبٍ تفور بياضاً وتشع كسراج الأنوار ومستقرها ومهبط الأسرار ومستودعها.. ومن جهة أخرى ثمة من يناقضهم ويحاربهم ولا يراهم أكثر من مرضى.. غير أسوياء سلوكياً اجتماعياً نفسياً. مرضى عصبيون أو مجانين، ومرد ذلك في رأيي يعود لسببين اثنين: الأول يتعلق بالمتصوف نفسه وما مر به من حالات دفعته لإطلاق ردّات فعل سواء كلامية من خلال التلميح أو التصريح أو عن طريق سلوكيات اجتماعية جاءت نشازاً. والسبب الثاني متعلق بالمتلقي سواء الباحث أم الدارس أم فقهاء وعلماء الكلام أو حتى الإنسان العادي، وذلك لعدم قدرتهم أو رغبتهم في تقبل هذه التجربة وفق سياقاتها النفسية التراكمية المعرفية المنطلقة والمبنية على أسس فيها ما فيها من الشرع والدين بقطبيه القرآن والسنة، فتم تناولهم بمرجعية متشددة تكفيرية في بعضها وفي بعضها الآخر عبثية غير مسؤولة. علماً أن بعض الباحثين يرى أن التصوف خرج أول ما خرج من عباءة الفرق الكلامية وأهمها الأشاعرة.. فالدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه مفهوم النص يرى أن التصوف انبثق من جبة الأشاعرة، فالحارث بن أسد المحاسبي أشعري صوفي، وابن عربي يصر في فتوحاته على التمسك بالعقائد الأشعرية الأساسية. لكن الفكر الأشعري قد عانق التوجه الصوفي وامتزج به امتزاجاً تاماً عند الغزالي قبل ابن عربي بقرن من الزمان.(7) هوامش: 1 - الشهرستاني – الملل والنحل – محمد بن عبد الكريم ص33 نقلاً عن الدكتور سعد الدين كليب – البنية الجمالية في الفكر العربي – الإسلامي ص25 وزارة الثقافة – دمشق - 1997- 2 – الإيثولوجيا - لأرسطو عن كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين للفارابي ص31 - المنقول من كتاب للدكتور جميل صليبا بعنوان من أفلاطون إلى ابن سينا ص63 الهيئة العامة للكتاب – الكتاب الشهري العاشر – دمشق- اختيار وتقديم د نزار عيون السود. 3 - ابن الجوزي- تلبيس إبليس ص 161 4 - العقلية الصوفية ونفسانية التصوف – للدكتور علي زيعور- دار الطليعة - بيروت-1979-ص152-153 5 - الموسوعة الفلسفية - لجنة من العلماء والأكاديميين السوفييت، بإشراف م .روزنتال وب. يودين ترجمة سمير كرم إصدار دار الطليعة- بيروت ص128 6 –المصدر نفسه ص 279 7 – الدكتور نصر حامد أبو زيد – مفهوم النص –ص245- المركز الثقافي العربي، بيروت. |
|