تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


كيف نعيد اختراع مفهوم الحب؟

ملحق ثقافي
2018/6/26
إعداد: رشا سلوم

ما من عاطفة أنقى وأسمى من الحب، بل بالحب الذي هو أنبل الدوافع ترتقي البشرية وتتقدم، وحين تفقد هذا الخط من النمو والتطور والدوافع تعود إلى الوحشية تنكسر وتتلاشى بالحروب، والفناء، ومنذ أن بدأ الانسان يبحث عن معنى وجوده كان الحب أصل البحث، حبه للعمل للحياة، للتواصل للتفاعل للبقاء، واليوم ما ينقص البشرية هذا الكم الهائل من الحب، وطغيان الأحقاد والنزاعات.

وربما من الضروري أن يعاد تشكيل العقل البشري ليكون عقلاً قادراً على فعل الحب واجتراحه إذا لم يجده. تقول باحثة عربية توقع باسم أم الزين في دراسة لها عن الحب:‏‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

لقد حرك هكذا قلق عميق ثلّة من المفكرين المعاصرين الذين نشّطوا ثيمة الحب مرة أخرى، من أجل إنقاذ ما تبقى من الإنساني فينا: هي ثورة الحب من أجل حياة روحية جديدة (وفق لوك فيري) أو مديح الحب ضد الحب الاستهلاكي المعولم (ألان باديو)، أو الحب كشكل من اختراع المستقبل بكل مساحة الممكن التي تولد معه (نيغري). هي ثنايا فكرية وعرة تسير فيه أسئلة فلسفية تشتهي إدراك إحداثية جديدة لعصر يفقد فيه البشر إحداثياتهم وخرائطهم وهوياتهم الحميمة. ومن أجل ذلك تكاثرت العناوين التي عقدت العزم على جعل مفهوم الحب براديغما فلسفياً بامتياز من قبيل كتاب الفيلسوف الفرنسي ريكور “تأملات في الحب والعدالة” (1990)، ونص الفيلسوف الإيطالي نيغري “فينوس الواهبة للحياة، مقدمات في الحب” (2000)، وكتاب “الحب السائل” لعالم الاجتماع البولوني زيغمونت باومان (2004)، و”مديح الحب” للفيلسوف الفرنسي ألان باديو (2009)، و”ثورة الحب، نحو حياة روحية لائكية” (2010)، إلخ.. ولقد التقت هذه العناوين رغم اختلاف مشاربها الفكرية العميقة في نقطة أساسية: الاشتغال على مفهوم الحب كخيط تأويلي طريف وفريد من أجل اختراع تجربة معنى مغايرة لكل ادعاءات الحقيقة التقليدية التي انتهت إلى أزمة العالم الحالي: فقر مدقع في الحياة الروحية رغم انتعاش تجارة الأديان، وتصحر رهيب في المنظومة الرمزية العميقة للشعوب رغم ازدهار فن البضاعة، وقحط في المشاعر رغم ثراء ثقافة الرفاه والمتعة. كيف نعيد الى الأفراد قدرتهم على الحب؟ وكيف تستعيد الإنسانية اقتدارها العميق على المحبة؟ ذلك أنه ثمة خيط رهيف يفصل بين الحب كموضوعة أيروسية وجنسية حميمة وبين المحبة كثيمة أتيقية وأنطولوجية لاختراع الحياة المشتركة على نحو مغاير.. ولعل أصدق ما قيل في الحب قد عبر عنه نزار قباني بقوله :‏‏‏‏‏

أحبه.. لست أدري ما أحب به ‏‏‏‏‏

حتى خطاياه ما عادت خطاياه‏‏‏‏‏

الحب في الأرض. بعض من تخيلنا‏‏‏‏‏

لو لم نجده عليها.. لاخترعناه‏‏‏‏‏

ماذا أقول له لو جاء يسألني‏‏‏‏‏

إن كنت أهواه. إني ألف أهواه..‏‏‏‏‏

اختراع الحياة المشتركة‏‏‏‏‏

وفي كتابه المعنون “ثورة الحب/‏ من أجل حياة روحية لائكية” يشرع المفكر الفرنسي لوك فيري لضرب من النزعة الإنسانية الجديدة القائمة على استعادة الحب كثورة روحية هي الأفق السياسي الوحيد المتبقي لنا اليوم. والسؤال يكون حينئذ: كيف نبني إنسانوية جديدة على الحب لا بوصفه أيروسياً بل بوصفه محبة، أي بما هو نوع من إتيقا الإحسان الى الآخر. وتقوم المحبة هنا على آداب تقاسم تجارب الحياة، وهو تقاسم يقوم على العائلة أولاً من أجل التوسع نحو الإنسانية كجماعة افتراضية ينتمي إليها الجميع على قدم المساواة. ثورة الحب تعني هنا التشريع لنوع من الالتزام الإتيقي الذي يتحمله كل منا تجاه عائلته وأقربائه من أجل التأسيس للإنسانية في شكل موسع. والمثير في هذه المقاربة الإنسانوية هو التعويل الفلسفي الأساسي على مفهوم المحبة بوصفها الموقع الرمزي الوحيد المقدس في عمق كل واحد منا. فكل امرئ يمكنه أن يكون خبيثاً أو لئيماً أو حتى أحمق، لكنه مع ذلك يمتلك في عمقه الحميم محبة ما للآخرين تجعله يفكر بأحبائه حيثما كان.‏‏‏‏‏

إن المحبة هي الأمر الوحيد الذي يصاحبنا حيثما نحن. ويقول لوك فيري في هذا السياق ما يلي “لا أعتقد أن اليونان يفكرون دوماً بالكوسموس حينما يذهبون إلى التسوق.. لكن الحب يظل يصاحبنا دوماً حيثما ذهبنا..”.‏‏‏‏‏

والبشرية حتى تتجاوز خزان الكراهية الذي يفجرها لابد أن تعود إلى ما قاله ابن عربي:‏‏‏‏‏

وقبّلَ أحجاراً بها، وهو ناطقٌ‏‏‏‏‏

وأينَ مَقامُ البيتِ من قدرِ إنسانِ‏‏‏‏‏

فكَم عَهِدَتْ أن لا تحولَ وأقسمتْ‏‏‏‏‏

وليس لمخضوبٍ وفاءٌ بأيمانِ‏‏‏‏‏

ومنْ أعجبِ الأشياءِ ظبي مبرقعُ‏‏‏‏‏

يشيرُ بعنَّابٍ ويومي بأجفانِ‏‏‏‏‏

ومَرعاهُ ما بينَ التّرائِبِ والحَشَا‏‏‏‏‏

ويا عَجَباً من روضةٍ وَسَطَ نيرانِ‏‏‏‏‏

لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورة‏‏‏‏‏

فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ‏‏‏‏‏

وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ،‏‏‏‏‏

وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ‏‏‏‏‏

أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ‏‏‏‏‏

رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني‏‏‏‏‏

لنا أُسْوَةٌ في بِشْرِ هندٍ وأُخْتِهَا‏‏‏‏‏

وقيسٍ وليلى، ثمَّ مي وغيلانِ‏‏‏‏‏

كيف تستطيع المحبة أن تعيد إلى سكان العالم الحالي ثقتهم بالآخرين؟ وهنا ثمة نوع من الطرافة الفكرية التي ينبغي التنويه بها في تصور نيغري للمحبة في عصر العولمة. إن الحب الافتراضي الذي يولد على فضاء الصداقة الرقمية هو موقع نشيط وموجب لإنتاج الحياة المشتركة.‏‏‏‏

فالشبكة ليست مجرد فضاء افتراضي للتواصل العابر والظرفي والسائل، بل هي “مكنة إنتاج أنطولوجي للمشترك” فهي حقل المشاركة بين الناس، بل “إن الشبكة الافتراضية هي شكل إنتاجنا للعالم اليوم”، وإن علاقتنا بعالم التواصل الاجتماعي ليست مجرد علاقة أدائية واعتباطية، بل ثمة “شيء ما لغوي وعلائقي وعاطفي” يحدث صلب الحب الافتراضي، هو ضرب من “التعاون اللغوي” من أجل اختراع مجموعة لامتناهية من الفرديات هي الجموع في كثرتها وتنوعها واختلافها.‏‏‏‏‏

ومن أجل المرور من الحب الرومنسي الذي لا يؤسس لغير الحب من وجهة نظر الهوية أو الفردانية التي تقف في حدود نرجسية مغلقة على رغباتها المرضية، ينبغي المرور الى التأسيس للمحبة بوصفها “القوة التي تجعل المجتمع يتماسك في أعلى درجة للوعي بذاته”. وحده عالم محب بوسعه أن يرسم خرائط أجمل للمستقبل. لكن أي مستقبل بوسعنا تخيله في هذا العالم الذي تخربه كل يوم سياسات الكراهية والضغينة والوعي التعيس؟‏‏‏‏‏

نيغري يجيب كما يلي: “ليس لدي تنبؤات عما سيحدث.. لكن بوسعنا أن نتخيل أن دروباً أخرى لا تزال ممكنة..” وفي هذا السياق يقترح نيغري مرة أخرى تصوراً موجباً للعولمة وذلك على عكس كل المفكرين المعاصرين الذين يعتقدون أن خلاص الإنسانية الحالية يمر ضرورة عبر التحرر من العولمة. فهو يعتبر العولمة “أمراً إيجابياً، لأنها تهدم سلسلة كاملة من الأساطير وتنتج انفتاحاً للذاتية..”. فكل عصر إنما يخترع لعبته الخاصة وينتج معها ضرورة قواعد تلك اللعبة وأسباب تغييرها بألعاب مغايرة في نفس الوقت. والعصر الحالي هو بصدد إنتاج أشكال جديدة من الحياة المشتركة ومن الذاتيات الخلاقة للكينونة ضد تصورات الخراب اليائسة.‏‏‏‏‏

الحب هو الموضوع الأوسع والأشمل لأنه يعني الحياة، هو حب الأم لطفلها، حبنا للعطاء للعمل، لكل شيء، ليس حباً للجسد فقط، ليس حب الأنثى للذكر، أو العكس هو الطاقة الكبرى التي تحركنا وتمضي بنا نحو بر الأمان، وقد أعاره الكتاب والمفكرون أهمية كبرى وحفلت موضوعة الحب، بالعديد من العناوين التي وضعها فلاسفة كبار، وناقشوا فيها مفهوم الحب فلسفياً، على رغم اختلاف المشارب الفكرية العميقة لهؤلاء الفلاسفة. ومن تلك العناوين:‏‏‏‏‏

ـ “تأملات في الحب والعدالة” (1990) للفيلسوف الفرنسي بول ريكور.‏‏‏‏‏

ـ “فينوس الواهبة للحياة، مقدمات في الحب” (2000) للفيلسوف الإيطالي أنطونيو نيغري.‏‏‏‏‏

ـ “الحب السائل” (2004) لعالم الاجتماع البولوني زيغمونت باومان.‏‏‏‏‏

ـ “مديح الحب” (2009) للفيلسوف الفرنسي ألان باديو.‏‏‏‏‏

كلام عن الحب وله‏‏‏‏‏

* نحن ننتمي إلى ضرب من الكينونة المعطوبة، غير أن قليلاً من الوجود قد يخفي ممكناً أكبر مم بوسع العقول اليائسة توقعه. الحب هو شكل الأفق الذي ترسمه دوماً شمس جديدة.‏‏‏‏‏

* الحب هو طريقة أخرى في اختراع المستقبل. لكن المستقبل يحدث دوماً من جهة المستحيل. المهم أن نؤمن بقدرتنا على التماسك حتى في الخراب.‏‏‏‏‏

* ينبغي أن نؤمن بإمكانية الحقيقة حتى لو كان كل العالم على خطأ. وذاك هو الحب: أن نتمسك بحدوث العالم على شكل مغاير.‏‏‏‏‏

* الفن هو أرقى تجليات الحب.. فلنستأنف كتابة القصائد والأغنيات.. أغنيات جديدة “سنغنيها فيما أبعد من البشر” بول سيلان.‏‏‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية