|
ملحق ثقافي
أما الدوافع التي حرّضت الفنانين للتوجه إلى هذه الموضوعات، فهي كثيرة ومتباينة، منها منح المنجز البصري العربي المعاصر هويّة تراثيّة، تُشير إلى مكان ولادته وزمانها، والتأكيد على اعتزاز هذا الفنان واحترامه لهذه الشخصيات العلميّة أو السياسيّة، أو تلك التي جسدت البطولة و(الكدعنة) وداعبت عواطف الإنسان الشعبي، وعزفت على أوتار قناعاته وأحلامه وتوجهاته، وإيمانه بالقيم الخيّرة والنبيلة. بعضهم الآخر، اتجه إلى هذه الموضوعات، كنوع من التقليد لما كان الفنان الأوروبي يقوم به، ثم لاحقاً بتأثير ظاهرة الاستشراق التي تناولت الشرق بشكل عام، والعالم العربي بشكل خاص، من خلال وجهات نظر وغايات وأهداف متباينة، بعضها القليل كان موضوعياً، في تناوله للموضوعات العربيّة التراثيّة، وأكثرها كان مُجحفاً وعاطل النظرة، إلى عوالم الشرق وحكاياته وأساطيره، حيث ترك بعض الفنانين الغربيين العنان لتخيلاتهم حول ما ورد من أساطير في حكايات ألف ليلة وليلة، وبنوا عليها موضوعات أعمالهم، لاسيّما ما يتعلق منها بالسلاطين والحريم والجنس، مدفوعين من قبل غرائزهم التي صوّرت لهم عوالم ساحرة مشتهاة، تفننوا في رسمها وتصويرها، دون أن يكون لها مستند واقعي، في هذه البلاد التي أعطت العالم أولى الأبجديات، والديانات السماويّة الثلاث، ومنها خرجت الحضارات العالميّة الأولى والكبرى. الفنون الجديدة
بعد الفنون التشكيليّة المتمثلة بالرسم والتصوير بالألوان الزيتيّة والمائيّة، والحفر المطبوع، والنحت والخزف، جاءت ولادة (الكاميرا) عام 1837 التي تمخضت عنها في البداية، الصورة الضوئيّة بالأبيض والأسود، ثم بالألوان، وبعدها جاءت عدسة السينما، فالتلفاز، والحاسوب، والانترنت، والديجيتال.. إلخ، فتصدت هذه الوسائل البصريّة، لاستعادة التاريخ القريب والبعيد، عبر أفلام سينمائيّة وتلفزيونيّة ومسلسلات دراميّة، ومن بينها، شخصيات الحكايات والأساطير والخوارق من الأبطال والعشاق، وحماة الأخلاق والفضيلة، ونصراء الفقراء والمستضعفين، ومنهم (عنترة العبسي) وحكايته مع ابنة عمه (عبلة بنت مالك) التي تيمته، لكنه لم يفز بها، رغم القيم النبيلة التي جسدتها شخصيته المقدامة، البطلة، المدافعة عن القبيلة والأهل والوطن. فقد شكّلت حكاية (عنترة) و(عبلة) بحمولاتها المثيرة، الشيقة، والمرغوبة شعبياً، مادة غنية، لرسومات عدد كبير من الرسامين العرب، الشعبيين التلقائيين، والدارسين الأكاديميين منهم: الرسام الشعبي السوري (أبو صبحي التيناوي) وحفيدته (نجاح التيناوي) والفنان التشكيلي اللبناني المعروف (رفيق شرف) الذي يُعد من أهم رموز التشكيل اللبناني المعاصر. لقد تناول هؤلاء شخصيتي (عنترة) و(عبلة) في العديد من الأعمال الفنيّة، وبوضعيات وخصائص وأساليب متشابهة، ما يؤكد أنهم نهلوا من نفس المصدر، ونسجوا على نفس المنوال، وإنما بفروقات وخصائص، لها علاقة بثقافة وقناعة كل منهم، وتالياً، برؤيته الفنيّة، للموضوع المُعالج، وموقفه الشخصي منه أولاً، وثانياً بوسيلة التعبير التي يستخدمها لإنجاز عمله الفني (الخامة، الألوان، الخبرة، الدراسة، الاطلاع، المنهج .. إلخ).
أبو صبحي التيناوي أبو صبحي التيناوي (واسمه الحقيقي محمد حرب) من مواليد حي باب الجابية في دمشق القديمة عام 1888 وتوفي فيها عام 1973. أخذ حرفة الرسم عن سابقيه (لاسيّما والده) وورّثها لأبنائه وأحفاده الذين لا زالوا يمارسونها حتى اليوم، بنفس الخصائص والمقومات، ونفس الموضوعات، ومن بينها (ولعل أهمها وأبرزها) موضوع (عنترة) و(عبلة) الذي وضع له (ومن بعده أولاده وأحفاده) آلاف الرسوم واللوحات التي سافرت إلى أصقاع المعمورة كافة. رسم أبو صبحي عنترة وعبلة في لوحة مشتركة، وفي لوحات مفردة خاصة بكل منهما، وبوضعيّة وملامح وثياب وزخارف وعناصر واحدة مكررة. عنترة فوق حصانه الأبجر، وعبلة فوق حصانها، بنفس الزاويّة الجانبيّة التي تُظهر ملامح الوجه كافة، ودون الإيهام بالبعد الثالث (المنظور) وبأسلوب المنمنمات الإسلاميّة التي تعتمد المساحة اللونيّة الطلس (السادة) غير المتدرّجة، والرسم المُحيط بهذه المساحات. حافظ أبو صبحي على مقومات وخصائص لوحاته ورسومه عن (عنترة وعبلة) حتى آخر حياته، ما دفع البعض للاعتقاد أن لديه (كليشة) لهيئة عنترة وحصانه، وهيئة عبلة وحصانها وباقي عناصر ومفردات اللوحة، يستخدمها في تحديد هيكليتها العامة، عبر نقاط اللون التي تتسرب إلى سطح اللوحة (وكان في البداية مقتصراً على مادة الزجاج، ثم استخدم أخر حياته مادة القماش) من خلال ثقوب تُحدد هيكليّة العنصر والشكل والهيئة، محفورة في (الكليشة) ثم يقوم بوصل هذه النقاط، ليحصل على الشكل العام لهذه المفردات، يلجأ بعدها، إلى ملئ مساحاتها بالألوان، وتأكيد تفاصيلها بالخطوط. ولأن التيناوي يؤمن إلى حد القناعة المطلقة، ببطولة وقوة وشهامة وفرادة عنترة بن شداد، يحرص على أن يسميه في لوحاته كافة بـ (عنترة أبو الفوارس) حيث يضع هذه العبارة، بخط بارز، بالقرب من رأسه، كما يُسمّي حصانه الأبجر. ويسمي عبلة بعبارة (عبلة ست الحسن) وفي آخر المطاف، يبحث عن أبرز مكان في اللوحة، ليضع فيه توقيعه وهو كما يلي (الرسام أبو صبحي التيناوي، باب الجابية، زاوية الهنود، دمشق - سورية) وهذا التوقيع - العنوان، هو الذي قاد محبي فنه من العرب والأجانب، إلى دكانه الصغير في حي باب الجابية الذي كان يبيع فيه لوحاته وبعض الخردوات، والحصول من ثم على هذه اللوحات التي شهدت أواخر حياته، حركة تسويق نشطة، بفضل اللبنانيين الذين كانوا يتقاطرون إلى دمشق أيام الآحاد، خلال أواخر ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي، لشراء الحلويات الدمشقيّة الشهيرة، ولوحات أبي صبحي التيناوي التي كانت تعبر من خلالهم إلى أوروبا، حيث أقيمت لها معارض عديدة، لم يعلم بها التيناوي، ولا يهمه أمرها، ما دام قد أخذ ثمن كل لوحة خرجت من دكانه، وفيما بعد من بيته الدمشقي العتيق، كما صرح لنا أثناء زيارتنا له العام 1972. أي قبل عام من وفاته. أخيراً لا بد من الإشارة، إلى أن الألوان التي كان يستعملها التيناوي، هي من صنعه، ورفض رفضاً باتاً، اطلاعنا عليها أو على ورشته التي ينجز فيها رسومه، قائلاً: (هذا سر المهنة)!! نجاح التيناوي نجاح التيناوي، رسامة شعبيّة سوريّة، ورثت عن جدها أبي صبحي التيناوي حرفة الرسم، وسارت على خطاه في الشكل والمضمون، حيث كرست لوحاتها لنفس المواضيع الشعبيّة التراثيّة المرتبطة بالبيئة العربيّة، ومنها موضوع (عنترة) و(عبلة) الذي تناولته بأسلوب جدها وألوانه وأشكاله وطريقة توقيعه على العمل الفني الذي وحده يميز لوحات الجد عن الحفيدة التي لا بد أنها كانت، ضمن فريق العمل التيناوي الذي شمل أبناء أبي صبحي في البداية، ثم انضم إليه الأحفاد، بعد أن ازداد الطلب على أعماله أواخر حياته، نتيجة تعرّف الأوروبيين واليابانيين على هذه الأعمال التي نُظمت لها معارض في أوروبا واليابان، بمبادرة شخصية من مقتنيها الذين وجدوا فيها فطريّة نادرة، وروحاً شرقيّة تعكس بكثير من النقاء والصدق والطفوليّة الإنسانيّة، همهمات وأسرار وسحر الشرق المطهم بالغموض والإثارة، وعادات وتقاليد إنسانه التلقائي في تعامله مع الآخر، والقنوع في حياته، والصادق في سلوكه، والبسيط في متطلباته وحاجاته.
لقد تفرغ أبو صبحي أواخر حياته، للإشراف على فريق العمل التيناوي، واكتفى بالتوقيع على ما ينتجه هذا الفريق من أعمال فنيّة، لكن دفق الحياة الذي دب في ألوان هذه اللوحات وخطوطها وأشكالها، أكدت على أن دماءً شابة دخلت على خط شغلها، حيث كانت الأعمال الأخيرة التي أنتجها أبو صبحي بنفسه (وهو في عمر متقدم) تشير بجلاء إلى شيخوخته، حيث كانت ألوانها مرمدة وكامدة، وخطوطها راجفة، وأعضاء شخوصها مرتخية وضعيفة الحركة. أقامت الرسامة نجاح التيناوي معرضاً لأعمالها في صالة المركز الثقافي الفرنسي بدمشق قبل بضعة سنوات، أكدت من خلاله، إخلاصها لموضوعات وأسلوب جدها، وبالتالي استمرارها على نهجه وخطاه، في الشكل والمضمون، وهذه هي أول مرة، يخرج فيها واحد من أسرة التيناوي، ليضع نفسه تحت الأضواء، بينما في السابق، كانت الأعمال ترد إلى السوق من محترف التيناوي، دون أية إشارة لمنتجها الجديد!! على هذا الأساس، تعتبر (نجاح التيناوي) استمراراً أميناً للصيغة الفنيّة التيناويّة، بكل أبعادها ومقوماتها وخصائصها. رفيق شرف (رفيق شرف) فنان تشكيلي لبناني من مواليد مدينة بعلبك عام 1932. درس الفنون في الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون، ثم تابع دراسته في أكاديميّة (سان فرناندو) الملكيّة في العاصمة الإسبانيّة مدريد، كما سافر إلى إيطاليا لنفس الغاية، عاد بعدها ليعمل مدرساً للفن في معهد الفنون الجميلة ببيروت، وشغل منصب رئيس الفرع الأول فيه قبل وفاته عام 2003. أقام الفنان شرف العديد من المعارض داخل لبنان وخارجه، ونالت أعماله العديد من الجوائز وبراءات التقدير. تنقل الفنان شرف بين عدة أساليب، وتناول في أعماله موضوعات كثيرة ومتنوعة، من بينها موضوع (عنترة وعبلة) بأسلوب التيناوي ووضعيات شخوصه، إنما برؤية فنان أكاديمي، اشتغل بإسهاب على مقومات اللوحة الحديثة، بدءاً من التكوين، والصياغة، والألوان، والخطوط، وانتهاءً بالزخارف والتوريقات وتموضعها في معمار اللوحة، التي رغم الإضافات والتجديدات التي أحدثها الفنان شرف فيها، ظلت تحمل تأثيرات التيناوي من جهة، وأسلوب المنمنمات الإسلاميّة، من جهة ثانية. كما حاول أنسنة الحصان من خلال معالجة خاصة لوجهه قادته إلى أسلوب الفنان الإسباني الشهير (بابلو بيكاسو) لاسيّما مرحلته التكعيبيّة. رسم الفنان رفيق شرف الحصان مع السيف العربي، ورسم عنترة فوق حصانه الأبجر مفرداً، وجمعه مع عبلة على صهوة حصان واحد، وهو ما لم يفعله أبو صبحي التيناوي، لاعتقاده أن هذا الأمر لا يجوز ولا تسمح به الأعراف والتقاليد التي كان شديد التمسك بها، والحفاظ عليها.
لقد شكّل عنترة وعبلة والحصان، في لوحة الفنان رفيق شرف، بنية تشكيليّة متماسكة، عكست حالة الوجد الفائقة، والتوحد العجيب، الذي جمع هذه العناصر الثلاثة، مع ملاحظة استخدام الفنان للألوان الحارة في ثياب الشخوص، والباردة الكامدة في الخلفية. أما في اللوحات التي أفردها لعنترة وحصانه، فقد أغرق خلفياتها بالأشكال والزخارف النباتيّة، بينما خلت خلفية لوحته الثلاثيّة من الزخارف والإشارات والرموز، باستثناء سيف عنترة وزوائد غطاء رأسه ورأس عبلة، وقد بسّط الفنان في معالجة الأشكال، وألغى البعد الثالث فيها، واتكأ على الخط (الرسم) في تحديد هيكليتها، وبناء عمارة اللوحة التي قدمته رساماً أكثر منه ملوناً، وهذه سمة عامة تنسحب على تجربته الفنيّة التي مرت بمراحل عدة، منها مرحلة السهول التي مزج فيها بين انطباعاته عن سهول مسقط رأسه (بعلبك) وسهول إسبانيا التي مكث فيها عدة سنوات. في أعمال هذه المرحلة، حاول الفنان شرف أنسنة المكان، وإبراز جمالياته عبر الطبيعة والحياة اليوميّة للإنسان البقاعي. بعدها انتقل إلى مرحلة العصافير التي استلهمها أيضاً من سهل البقاع، وعالجها برؤية خاصة، وأسلوب متفرد، أخرج الموضوع من إطاره الواقعي المحدود، إلى أفاق هامة تشكيلياً ودلالياً. ثم جاءت مرحلة عنترة وعبلة والحصان الأبجر التي قارب فيها تكعيبيّة (بيكاسو) وعفوية (التيناوي) ورصانة المنمنمات الإسلاميّة. أعقب ذلك مرحلة (الحروفيات) التي تعامل فيها مع الحرف العربي كوحدة زخرفيّة ذات خصيصة تجريديّة حركيّة لافتة، ثم دخل على فن المنمنمات المتماهي بفن الأيقونات. كما تفرغ في مرحلة أخرى، لرسم القطط ضمن تكوينات وأوضاع لافتة، ورسم ركاماً لمدينة محترقة، ثم استعاد في السنوات الأخيرة من حياته، مراحل تجربته الفنيّة كافة، ليمزجها في صياغة جديدة، ضمّنها خبراته التشكيليّة، وثقافته البصريّة والفكريّة، التي جمّعها من الدراسة الأكاديميّة المتعددة المشارب، ثم من انكبابه على إنتاج الفن وتدريسه، ومتابعاته النقديّة للمعارض المحليّة والعالميّة، والكتابة حولها وحول شؤون وشجون الفن والحياة العامة في لبنان، وقد أخذت هذه الكتابات طريقها إلى صحف ومجلات عديدة، داخل لبنان وخارجه، وإلى بطون بعض الكتب. |
|