|
آراء
ذلك أنه لم يكن يعتمد النظرية القانونية القائلة: يبقى المتهم بريئاً حتى يدان, ومع كل عنفوانه وقسوته, فقد كان محباً للعلم والعلماء حتى قال ذات مرة (العجب كل العجب ممن يترك أن يزداد علماً ويختار أن يزداد جهلاً), فسأله أبو بكر الهذلي: ما تأويل هذا الكلام يا أمير المؤمنين? فقال: يترك مجالسة مثلك ومثل أصحابك ويدخل إلى امرأة أو جارية فلا يزال يسمع سخفاً ويرى نقصاً. وأنا مع الشق الأول من كلام المنصور, لكنني على خلاف واختلاف معه في الشق الثاني, لأن السخف والنقص والتفاهة من صفات الجهلاء سواء أكانوا نساء أم رجالاً. ومسيرة الأزمنة شرقاً وغرباً أكبر شاهد على ذلك بدءاً من الامبراطورية الرومانية التي حكمتها ثلاث أميرات سوريات استلمن زمام السلطة, لتغدو كل واحدة منهن امبراطورة حركت مسار التاريخ في حينها ومروراً بالتاريخ العربي بدءاً من زينب ملكة تدمر وبلقيس ملكة سبأ وانعطافاً إلى باقي أصقاع المعمورة, أما النساء اللواتي حققن حضوراً فلسفياً, وفكرياً, وأدبياً, وعلمياً في معظم الجغرافيات وساهمن في إنشاء الحضارات الإنسانية فهن ألوف مؤلفة. ومما يروي لنا الرواة أنه استدعى ذات يوم قاضي القضاة على إفريقيا والذي كان رفيقاً له في طلب العلم يوم كان فتى يافعاً, فسأله أبو جعفر المنصور: كيف رأيت سلطاني من سلطان بني أمية, وكيف حال ما مررت به من أعمالنا وأقاليمنا حتى وصلت إلينا? فأجاب القاضي بعد أن أخذ لنفسه الأمان قائلاً: رأيت يا أمير المؤمنين أعمالاً سيئة وظلماً فاشياً, والله ما رأيت من سلطان بني أمية من الجور والتعسف والظلم إلا رأيته في سلطانك, وكنت قد ظننت وأنا في المغرب أن ذلك لبعد البلاد عن مركز خلافتك, إلا أنني كلما دنوت كان الأمر أعظم. فأطرق المنصور رأسه طويلاً ثم رفعه قائلاً: كيف لي بالرجال?!! فقال القاضي: أليس عمر بن عبد العزيز كان يقول إن الوالي بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها, فإن كان براً أتوه ببرهم وإن كان فاجراً أتوه بفجورهم. ومن قبيل الإنصاف الإشارة إلى أن المنصور رغم طغيانه الذي كان لا يعرف حداً يتوقف عنده, فهو بنفس الوقت كان متقشفاً لا يحب البذخ والترف, ويهتم بأمور المواطنين رغم قسوته حتى قال ذات يوم: (ما أحوجني إلى أربعة هم أركان الدولة ولا يصلح الملك إلا بهم. أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم, والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي, والثالث صاحب خراج يتقاضى ولا يظلم الرعية) ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات متأوهاً مع كل عضة إصبع. فقيل له: فمن الرابع يا أمير المؤمنين? فأجاب: (صاحب بريد يكتب لي خبر هؤلاء على الصحة). ووفقاً لمصطلحات عصرنا هذا, فإن قوام الدولة وأركانها على صعيد الأمة إنها لا تحقق شرطها الإنساني إلا بنزاهة السلطات القضائية والتنفيذية والمالية والجهات الأمنية التي تقتصر وظيفتها على إعلام الحاكم بمدى التزام هذه السلطات بالقوانين الناظمة, لكن لم يتطرق أبو جعفر المنصور إلى السلطة التشريعية التي تستخرج قوانين جديدة وفقاً لمتغيرات الزمان والمكان لأنه مثله في ذلك مثل غيره من سلاطين الأمس فقد كان يعتبر نفسه هو المشرع والتشريع.. وهذا ما يجعله يمارس القتل والإعدام على الشبهة, ويسوغ إيداع من يشاء في غياهب السجن على الشبهة.. وبالتالي فهو يتصرف بالأفراد والجماعات وفقاً لأهوائه.. ولا شك أن مثل هذه الصورة المحزنة للحاكم تحقق حضورها اليوم في معظم ممالك ودول وأقطار القارات الخمس رغم قوانين السماء والأرض, ورغم لوائح القيم ورغم قانون حقوق الإنسان الذي يُنتهك في كل مكان. ومن الإنصاف أيضاً لهذا الرجل الصلب الإشارة إلى مقولته التي كان يرددها في مجالسه قائلاً: (لا يصلح السلطان إلا بالتقوى, ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة, ولا تعمر البلاد إلا بالعدل, وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة, وأعجز الناس من ظلم من هو دونه). ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بنفسه: إلى أي مدى يتحقق العناق بين مقولات أبي جعفر هذه وبين شعارات اليوم التي ترفعها معظم الدول الكبرى والصغرى على صعيد الحريات والديمقراطيات والحب والأمن والسلام?!! وأبو جعفر المنصور هذا رغم أنه كان يتأثر إلى حد بعيد بخزعبلات المنجمين وأكاذيبهم كما هو وارد في وصيته لابنه حيث شعر بدنو أجله بوحي من المنجمين أنفسهم, رغم ذلك, فقد كان يحب العلم والعلماء الذين حفلت مجالسه بهم,فقد كان يردد أمام العلماء والأدباء والفقهاء والوزراء هذه العبارة المأثورة عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (لا خير في عبادة لا علم فيها ولا علم لا فهم فيه ولا قراءة لا تدبر فيها). وتحتضن ذاكرتي قصتين تعتبر كل واحدة منهما وساماً على صدر هذا الحاكم المستبد.. فقد كان يخرج أحياناً في الليل متلثماً ومتفقداً أوضاع عاصمة دار الخلافة وما حولها, وذات يوم رأى قافلة تجارية كبرى, فسأل عن صاحبها وطلب مقابلته, وشرع يحدثه عن التجارة والزراعة وأيام العرب, ثم سأله عن رأي الناس وموقفهم من أبي جعفر المنصور. فما لبث التاجر أن انطلق نقداً وشتماً لهذا الحاكم الظالم بلا توقف وكأنه بركان يتفجر حمماً إلى درجة فقد فيها المنصور قدرته على التحمل, فأزاح اللثام عن وجهه معلناً عن نفسه, ففزع التاجر خوفاً من بطشه, لكنه سريعاً ما وظف عقله التجاري وقدرته على الإقناع, فقال بصوت دافئ خاشع: المجالس بالأمانات يا أمير المؤمنين.. احكم عليّ بحلمك وجودك وفضلك وقولك, إن أقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة فظللني بظلال عفوك يا مولاي. فتبسم المنصور وخرج مودعاً. هذه هي الأولى.. أما الثانية... ولدت صداقة متينة بين عمرو بن عبيد أحد أئمة المعتزلة وأبي جعفر أيام النضال السلبي.. ولم يقدم هذا العالم الجليل لصديقه المال والعلم والنصح فحسب, وإنما كان يؤويه في بيته ليخفيه عن أنظار عيون البيت الأموي, ثم دارت الأيام دورتها ليصبح أبو جعفر حاكم الزمان يومذاك ولم يتم بينهما لقاء لسنوات عديدة. وشرع باستقبال رجالات العلم والفقه والأدب. فكان في كل يوم ينتظر قدوم رفيق دربه عمرو بن عبيد لكن هذا العالم لم يحضر مجالس الخليفة ولم يكن راغباً بها. حتى جاء يوم طلبه المنصور فلبى دعوته وجلس كباقي الحضور لا يتحدث إلا إذا اقتضى الأمر ذلك. وقبل أن ينفض المجلس راح كل من الحضور يرفع حاجته إلى الخليفة... وحينما هم عمرو مستأذناً بالانصراف, قال له المنصور: وما حاجتك يا إمام? فقال له: يا أمير المؤمنين.. إذا كان لك حاجة فإلى من ترفعها? قال المنصور: أرفعها إلى الله. فقال الإمام: وأنا أرفع حاجتي إلى الله أيضاً. فقال المنصور: كلكم يطلب الصيد ما خلا عمرو بن عبيد. |
|