|
ثقافـــــــة فالشعر ليس صدوراً عفوياً وتلقائياً عن ذهنية ميتة حجرها التقليد، بل هو صدور واع عن موقف حضاري من العالم المرئي بطريقة شعرية وفلسفية في آن واحد، ومن هنا لزم على الناقد أن يرصد الشعر مرتبطاً برصده للموقف الحضاري والاجتماعي والفلسفي الصادر عنه ذلك الشعر وليس رصداً لشكل وحده بطريقة خاطئة وخالية من أبسط قواعد النظرة السليمة للأمور، مكتفياً بتصيد الأخطاء الإملائية أو النحوية كما يفعل البعض، أو تصيد الهنات العروضية، ذلك أن القصيدة الحديثة تجربة حية صادرة عن رؤية شعرية للعالم تمتاز بالجدة والتفرد وبالأحاسيس المتشابكة والإيحاءات الكثيرة التي ينتظمها إيقاع واحد حل مكان رتابة البيت المتكرر ليفسح للقصيدة مجالاً خصباً للتعبير عن مضامين جديدة ردت للشعر العربي حيويته التي فقدها بعد أن تحول الشاعر العربي القديم إلى مجرد ناظم لموضوعات مكررة مفضلاً الألفاظ على الأوزان العروضية التي وضعها (الخليل بن أحمد الفراهيدي) في القرن الثاني الهجري بعد دراسة استقصائية واعية للشعر الجيد المكتوب قبله والتي أخذها الشعراء والنقاد من بعده، على أنها قواعد مقدسة لايمكن الخروج عليها بأي حال، وقد أدت هذه النظرة الضيقة للعروض العربي إلى تحول عروض الخليل من دراسة تساعد الشعراء الذين تنقصهم الخبرة والتمرس على فهم أسس الإبداع الشعري والإيقاع الموسيقي إلى قيود معوقة لحركة الانطلاق الإيقاعي في الإبداع الشعري، ما ساعد في تحنط الشعر في موضوعات مكرورة وذلك كنتيجة مباشرة تحشر جميع الانفعالات على اختلاف أطوالها وأنواعها في نفس القالب العروض- الجمل الموسيقية المتساوية- الذي تستلزمه الشطرات العمودية المتساوية، وقد أدى هذا الحشر بالضرورة إلى تشويه مفهوم الشعر حتى أصبح تعريفه الشائع هو (الكلام الموزون المقفى). كل هذه المفاهيم الخاطئة هي التي تستلزم توضيح مفهوم الشعر ومسؤولية الناقد المعاصر تجاهه، فالشعر في أبسط تعريفاته هو التفكير بالصورة والتعبير بها عن تجربة حية مرئية بطريقة شعرية، وليس الكلام الموزون المقفى أو أي شيء من هذا القبيل، ذلك لأن الأساسي في الشعر صدوره عن تجربة حية ورؤية شعرية صادقة يجسد الشاعر فيها خلال عملية البناء بالصورة معطيات الواقع الاجتماعي والحضاري الذي يعيشه، وقد يستلزم هذا التجسيد شكلاً تعبيرياً معنياً كالوزن والقافية، وقد يستلزم شكلاً آخر، يرى الشاعر أنه خير الأشكال التي يستطيع أن يعطي من خلالها تجربته عطاء حقيقياً. والذي يهمنا هنا هو (الشعر) الذي استكمل إلى حد ما شكله الفني حتى أصبح باستطاعته التعبير عن المعطيات الفكرية للواقع الاجتماعي رغم ظروف الأزمات والحروب التي مرت بالوطن العربي، وقد مر خلال فترة تبلور مفاهيمه بما يمكن أن نسميه الضرورات الثلاث التي استكمل بعدها شكلاً فنياً لايمكن القول إنه نهائي بل هو متلائم فقط مع الظروف الاجتماعية والحضارية الراهنة، وهذه الضرورات الثلاث المتشابكة هي ضرورة عروضية، وضرورة حضارية، وضرورة مضمونية، ومن هذا الفهم الذي وضحناه لطبيعة الشعر المعاصر يجب على الناقد أن يحدد مسؤوليته تجاهه قبل أن يمسك القلم ليكتب كلاماً لايمت للنقد- الذي هو عليه إبداعه قبل كل شيء، فالناقد يعطي ثقافته من خلال نقده قبل أن يعطي رأياً معيناً في قصيدة أو أي عمل فني آخر. *أكاديمي وكاتب عراقي |
|