|
شؤون سياسية بما فيها تلك «العلاقات» الدموية والعنيفة في صورة الحروب والنزاعات، ومن المحطات المهمة في هذا التطور اتفاقية جنيف 1846 التي تتعلق بحياد الأطقم الطبية وتقديم المساعدة في هذا الشأن دون تمييز، واحترام الأجهزة الطبية التي تضع شارة الصليب الأحمر، ثم اتفاقية لاهاي 1899 التي أخضعت الحرب البحرية لمبادئ اتفاقية جنيف السابقة، ومنذ ذلك الحين توالت الاتفاقيات والمواثيق والإعلانات ذات الطابعين الخاص والعام. وغني عن الشرح أن كثيراً من هذا التراث القانوني الإنساني الآخذ في الاتساع والتعمق لم يكن من السهل تطبيقه بمعيار واحد وبدقة في كل الحالات والفترات. ورغم أن القواعد الخاصة بالتدخل الدولي الإنساني ظلت شاحبة ومقيدة بعشرات الشروط، إلا أنه مورس في أغلب الحالات وفق المصالح الخاصة بكل مجموعة دولية منخرطة في الصراع الدولي ووفق معاييرها الذاتية، ويمكن القول إن العقود الأربعة الأولى من عمر الأمم المتحدة قد شهدت عجز المجتمع الدولي عن التطبيق الشامل لهذا المبدأ بسبب مناخ الحرب الباردة، بل استخدام كل فريق للمبادئ الواردة في الاتفاقيات مادة للصراع الإيديولوجي في مواجهة الآخر، فمثلاً ركز طرف على انتهاك الحقوق السياسية والمدنية، وركز الطرف الآخر على إهمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أما جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية، فلم يرَ كل طرف إلا مايقع منها في نطاق نفوذ المعسكر الآخر. ولقد حرصت الدول العظمى في فترة الحرب الباردة أن تراعي في سياساتها الخارجية الموازنة بين مصالحها الخاصة وبين ماتقدم عليه بعض النظم التابعة والحليفة لها من انتهاكات لحقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية، أما انتهاكات حقوق الإنسان في داخل الدول العظمى نفسها فقد كانت فوق كل مساءلة، بالطبع لم تكن الدول العظمى تلجأ إلى ردع حلفائها أو تعديل سلوكهم، إلا في أوقات والأزمات التي تنذر بانفجارات غير محسوبة قد تضر بقوة الحلف الدولي عامة. ومع ذلك ظلت نفس الموازنة السابق ذكرها معمولاً بها من جانب الولايات المتحدة إزاء بعض الأنظمة التي تتحكم في مصالح استراتيجية أونفطية حيوية بالنسبة لها ،وكلما زادت أهمية هذه المصالح ازدادت مساحة التغاضي، وربما التعتيم عن الانتهاكات، كذلك يجب ملاحظة أن مدى تحمس الرأي العام الداخلي في دول المراكز الرأسمالية لممارسة هذا التدخل يتوقف- إلى حد بعيد- على عامل المصلحة وحساب المكسب والخسارة قبل أي شيء آخر، فقد أيد الشعب الأميركي بقوة في البداية تقديم مساعدات مباشرة للجياع وضحايا الحرب الأهلية المدمرة في الصومال، غير أن هذا الرأي العام نفسه- وبالمثل الإدارة الأميركية- تراجع سريعاً عن موقفه حينما رأى على التلفاز جثث جنوده المصروعين في هذا البلد النائي التعيس، ومع ذلك فإن هذا الرأي العام أيضاً على استعداد لتقبل التضحية بآلاف الجنود الأميركيين لو تعرضت مصالحه الحيوية بالخارج للخطر، ولعل حرص الإدارات الأميركية انتهاج أسلوب »القصف الجوي« وعدم تفضيل التدخل البري، يمثل الصياغة «العبقرية» لحل هذا التناقض. لقد أثبتت الخبرة الدموية لحرب تدمير العراق وحروب البلقان مدى التكاليف المادية والبشرية للتدخل، ومن ثم، فإنه حتى التدخل «الشرعي» الذي تقرره المنظمة الدولية قد يتعثر أمام هذه العقبة، ومن ثم، فإن الدولة الأعظم تملك أكثر من غيرها القدرة على تفعيل قرارات المنظمة الدولية في هذا الشأن، وإلى جانب ذلك تضطلع الولايات المتحدة بنشاط عمدي لتوظيف الأمم المتحدة لخدمة أهدافها التدخلية الخاصة، وتتبع الولايات المتحدة آليات متعددة إضافية لإدماج المنظمة الدولية في صميم شبكة أولوياتها ومتطلباتها، من بينها المماطلة في سداد التزاماتها المالية. ومن ثم، فإن فاعلية المنظمة الدولية أصبحت رهينة مصالح الولايات المتحدة في المقام الأول، فدورها كإطار للشرعية الدولية يتم إبرازه في بعض القضايا وتغييبه في قضايا أخرى بصورة تدعو للتساؤل، ولايصح عزل الهيمنة الأميركية على مجلس الأمن عن إصرارها على احتكار الآليات والمرجعيات العالمية في مجموعة الدول الصناعية السبع والمؤسسات المالية الدولية ومنظمة التجارة العالمية وفي حلف شمال الأطلسي ذاته. أصبحنا أيضاً إزاء نزعة استعلاء أميركي واضحة، فوزارة الخارجية والاستخبارات الأميركية تصدران التقارير عن أوضاع حقوق الإنسان والحريات الدينية والأداء الاقتصادي والفساد في أنحاء العالم، ومحكمة أميركية تصدر قراراً بحق الحكومة الأميركية في اختطاف مواطني الدول الأخرى المشتبه فيهم ومحاكمتهم أمام المحاكم الأميركية، وتتدخل الإدارة الأميركية في الوقت نفسه لإلغاء أحكام قضائية صادرة عن محاكم دول أخرى بحق مواطنيها، فضلاً عن التصريحات الرسمية المتوالية التي لاتكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وعليه، نظن أنه قد تكشف بوضوح أن ما يسمى «التدخل الدولي الإنساني» هو مجرد آلية من آليات الهيمنة الأميركية أساساً، حيث يساء استخدام هذا المبدأ لتحقيق المصالح قبل المثل الأخلاقية، وهو مايتبدى فيه الانتقائية الصريحة التي يتم بها تطبيقه، كما أن التدخل العسكري الأجنبي في السياق الراهن غالباً ما يأتي بنتائج سلبية- إنسانياً- على أرض الواقع، وخاصة عندما لا عملية محايدة وتمثيلية أو يتم دون موافقة المنظمة الدولية أو بلي عنقها. |
|