تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


يوسف الخال مستقبل (الحداثة في الشعر)

ثقافة
الأثنين 4-7-2011
ممدوح السكاف

-1-ترى بعض الأبجديات النقدية لتاريخية نشوء حركة (الحداثة) في الشعر العربي المعاصر أن حقبة النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين كانت حافلة بجيل الرواد المؤسسين لهذا النمط من الشعر المجدد في عدد من أقطار الوطن العربي‏

وخصوصاً العراق ومصر ولبنان وسورية، فعلى أيدي جهود شعرائها إبداعياً وتنظيرياً (وقد كانوا آنذاك شباباً) نهضت الدعائم الأولية لهذا الشعر المستحدث المغاير لما سبقه من أنماط التقليد والاحتذاء والمتصادم معها فحوى وأداء ونظرة إلى الكون والحياة والواقع والشعر والثقافة.‏‏

-2-‏‏

وكان عدد من نقاد الحداثة وشعرائها العرب وفي مقدمتهم الراحل يوسف الخال يرى أن الحداثة في الشعر لاتمتاز بالضرورة على القدامى فيه ولكنها تفترض بروز شخصية شعرية جديدة ذات تجربة حديثة معاصرة، تعرب عن ذاتها في المضمون والشكل معاً، فالشعر فن، والفن لاغاية له، في الرأي النقدي، غير التعبير الجميل إبداعياً عن الذات في لحظة الكشف والرؤية، بمعنى أنه يخاطب العقل ولايخضع لقوانينه، ومهمته التلقائية المتوحدة هي النفاذ فيما وراء الظواهر المتناقضة المشوشة المبهمة ليكشف بالحدس أسرار الوجود الحقيقي المملوء بالانسجام والنظام والمعنى، وهو يتوسل إلى ذلك باللغة، ولذا كان الشعر لغة، أي وليد مخيلة خلاقة لاتعمل عملها الفني إلا باللغة وفي اللغة.‏‏

ومن هنا فإن الشاعر الحديث يصطدم في عملية الخلق الشعري بتحديين: الأول هو حدود اللغة أي قواعدها وأصولها التي لايمكنه تجاهلها إذا شاء أن يكون لعمله معنى الاحترام لقراء هذه اللغة وإذا أراد لإبداعه وجوداً في تراثها الأدبي، والثاني هي أساليب الأداء الشعري المتوارث، وهي أساليب راسخة في ذاكرة الأذهان وفي الذوق الجمعي العام، بحيث يؤدي الخروج عليها بغير أناة ومهارة وفهم إلى إفراغ القصيدة من حضورها الصميمي في القيمة الأدبية لدى النقاد والقراء.‏‏

لكن هذين التحديين القيدين، كما يعتقد كوكبة من النقدة المحدثين، هما اللذان يمتحنان أصالة الشاعر الجوهرية وموهبته الإبداعية فإن هو خضع لهما تمام الخضوع خرجت قصيدته مبذولة جامدة آلية، وإن تمرد عليها تمام التمرد، خرجت قصيدته هذراً لا طائل من ورائه، أما الصحيح في عرف النقاد المشتغلين في حقل الحداثة الشعرية مرجعياً فهو أن يعترف الشاعر الأصيل الموهوب بقواعد لغته وبيانها وبأساليبها الشعرية المتوارثة، وفي الوقت ذاته يأخذ لنفسه قدراً كافياً من الحرية لتطويع هذه العناصر الثلاثة تطويع التجديد والتحديث والمعاصرة، وفي هذا كله يهتدي الشاعر بملكة الشعور فيما هو مستهجن أو مغلوط في هذا التعبير أو ذاك، فملكة الشعور في ارتباطها مع العقل هي التي تسدد خطا الشاعر، خلال عملية الخلق، في اختيار الألفاظ والصيغ التعبيرية الموائمة لبنيان عمارته الشعرية، وفق رأي (يوسف الخال) في كتابه (الحداثة في الشعر).‏‏

-3-‏‏

غير أن أهم ماطرحه يوسف الخال في هذا المجال تحديداً هو ماجاء في محاضرته الموسومة ب (مستقبل الشعر العربي في لبنان) التي ألقاها في «الندوة اللبنانية» ببيروت أواخر عام 1956 وتعتبر بمنزلة البيان النظري الأول عن الحداثة الشعرية العربية وقد وضع لها الأسس العشرة التالية لتتحرك باتجاه المستقبل إذا أرادات أن تكون حديثة حقاً ونوردها فيما يأتي بعد إيجازها:‏‏

أولاً: التعبير عن التجربة الحياتية على حقيقتها، كما يعيها الشاعر بعقله وقلبه معاً.‏‏

ثانياً: استخدام الصورة الحية، محل استخدام الشاعر القديم الفذلكة البيانية فليس لدى الشاعر من وسيلة جذابة مبتكرة كالصور يحطم بها القوالب التقليدية في التعبير.‏‏

ثالثاً: إبدال التعابير القديمة التي استنزفت حيويتها بتعابير جديدة مستمدة من صميم التجربة.‏‏

رابعاً: تطوير الإيقاع الشعري العربي على ضوء المضامين الجديدة، فليس للأوزان التقليدية أي قداسة.‏‏

خامساً: الاعتماد في بناء القصيدة على وحدة التجربة لا على التسلسل المنطقي.‏‏

سادساً: الإنسان في ثنائياته الضدية هو الموضوع الأول والأخير، كل تجربة لايتوسطها الإنسان هي تجربة سخيفة، مصطنعة لا يأبه لها الشعر الخالد العظيم.‏‏

سابعاً: وعي التراث الروحي- العقلي العربي، وفهمه على حقيقته، وإعلان هذه الحقيقة، وتقييمها كما هي دون ما خوف أو مسايرة أو تردد.‏‏

ثامناً: الغوص إلى أعماق التراث الروحي- العقلي الأوروبي، وفهمه، والتفاعل معه.‏‏

تاسعاً: الإفادة من التجارب الشعرية التي حققها أدباء العالم، فعلى الشاعر الحديث ألا يقع في خطر الانكماشية كما وقع الشعراء العرب قديماً، بالنسبة للأدب الإغريقي.‏‏

عاشراً: الامتزاج بروح الشعب، لا بالطبيعة، فالشعب مورد حياة لاتنضب أما الطبيعة فحاله آنية زائلة.‏‏

-4-‏‏

وقد ضرب يوسف الخال مثالاً لتوضيح ماذهب إليه في بعض أسس التحديث الشعري المطروحة سابقاً مجموعة «رندلى» لسعيد عقل التي كانت آنذاك تعد نقدياً من أكمل المجموعات الشعرية فنياً وأوفرها حظاً بالحداثة وانتهى إلى وصفها بعد تحليلها بأنها تسبح في زمن تجريدي خارج التاريخ الحي وخارج العصر وهذا مايشير إلى انشقاق كياني في شخص صاحبها: يعيش جسدياً في زمن (الحاضر) وروحياً عقلياً في زمن آخر (الماضي) ما يؤكد البنية التقليدية لفكره وفنه على السواء، ويعقب أدونيس في كتابه (ها أنت أيها الوقت 1993) على هذه المحاضرة- البيان فيقول: إنها تنقل البحث في قضية التجديد الشعري أو الحداثة في الإطار التشكيلي- إطار التغيير في نسق التفاعيل إلى ماهو أشمل: إطار النظرة الجديدة إلى الحياة والإنسان التي يتولد عنها بالضرورة نسق تعبيري جديد. ويتابع أدونيس تعقيبه قائلاً: ليس الإطار الأول حديثاً إلا في المظهر- أعني أنه قد يخبئ وراءه نظرة قديمة- فهو في جوهره متابعة لسياق الفهم القديم التقليدي للشعر، أقول والكلام مازال لأدونيس- لكي أميز بينه وبين النظرة التجريدية التي كانت تعارضه، أما الإطار الثاني فحديث كلياً لأنه يطرح قضية الشعر من حيث هو فكرة وتعبير في آن، أي من حيث هو «مضمون» و «شكل» بحسب هذين المصطلحين اللذين أصبحا هما كذلك تقليديين ينبغي تخطيهما والبحث عن مصطلحات أكثر جدة ودقة.‏‏

m.alskaf@msn.com ‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية