|
ملحق ثقافي هذه الفكرة تصلح مدخلاً لتناول رواية أثارت مثل هذا الموضوع، تلك هي رواية (بلقيس والهدهد) للروائي العراقي علي خيون، وهي رواية قصيرة ولكنها جميلة، نطل منها على عالم ممتع وثري وغريب من الشخصيات والأحداث والأمكنة والموروث الشعبي ذي الدلالات ، صدرت طبعتها الأولى في بغداد عام 1995 والثانية في دمشق عن دار التكوين عام 2008 ويمكن أن نعدها أنموذجاً للرواية العراقية المعاصرة التي أثارت مشكلة المصطلح النقدي مما يجعل تلخيص ما جرى من جدل ونقاش نقدي واسع حولها أمراً مفيداً للقارئ والناقد معاً، لاسيما وانني احتفظ بنسخ من جريدة الثورة العراقية التي كانت تخصص الصفحة الثقافية للاحتفال بالرواية العربية وباشراف الشاعر المبدع جواد الحطاب.
طرحت هذه الرواية حين صدورها الأول محاور نقدية عميقة، كان الدكتور علي عباس علوان استاذ النقد الأدبي الحديث في كلية التربية ببغداد، قد توقعها حين ذكر ان العديد من القضايا النقدية و الكثير من التساؤلات تقدمها هذه الرواية كما ورد في رأيه المثبت على ظهر الغلاف، وتبعه شيخ النقاد في العراق الدكتور علي جواد الطاهر بمقالة مطولة عنوانها (بلقيس والهدهد والإبداع ) نشرها في جريدة الثورة العراقية ع 8717ـ 27نيسان 1995 أشاد فيها بموضوع الرواية وقال إنها برغم (قصرها ) تعبئ الحجم القصير لموضوع كبير او للموضوعات الثلاثة التي اثارتها الرواية وهي المصطلح والعنوان والأسطورة وهي موضوعات تستحق الوقوف والدراسة، ثم فتح الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي باب النقاش واسعاً حين كتب في مجلة آفاق عربية ع 9ـ 10 أيلول ـ تشرين الاول 1995 مستخدما مصطلح الرواية (الصغيرة ) وشجع ذلك الناقد قيس الجنابي ليقول إنها بفصولها الستة عشرة أقاصيص ( منضدة ) وتبعه محمود موسى ليرى أنها رواية ( مضغوطة )على حد تعبيره ـ في الصفحة الثقافية المخصصة للرواية جريدة الثورة العراقية عدد 8794في 9آب 1995ـ مما خلق فوضى نقدية في استخدام المصلح، ونحن نرى أن الرواية ليست في حجمها وانما في طريقة تناولها ومعالجتها للموضوع لذا فان اية رواية قصيرة ناجحة لا يعيبها صغرها مادمنا نستطيع وضعها باطمئنان إلى جانب روايات قصيرة ناجحة ومعروفة مثل : الوجه الآخر لفؤاد التكرلي واللص والكلاب لنجيب محفوظ والوشم لعبد الرحمن الربيعي ورجال في الشمس لغسان كنفاني . وعنوان الرواية أثار جدلاً آخر فهو من العناوين التأويلية التي تمثل اختياراً واعياً قد اكتشفه صاحبه عند ولادة التفكير بهذه الرواية فيما نظن وظل مقتنعا به عند الابتداء بكتابتها وتطور مع نمو وتطور الرواية. تعتمد هذه الرواية على اسطورة عظم الهدهد المعروفة في الموروث الشعبي الحكائي وهي اسطورة تقول: أن امتلاك الإنسان عظماً معيناً من عظام الهدهد يمكنه من التأثير في أي شخص وإيقاعه تحت سيطرته لتحقيق رغباته بعد أن يعمد حامله الى ملامسة جسد أو قطعة من ملابس ذلك الشخص. إن بحث بطل الرواية (سعود) عن هذا العظم المسحور ثم حصوله عليه وتحقيقه كثيرا من طموحاته خاصة الوصول الى (بلقيس )، هو محور الرواية الرئيس، وقد وصل الى بعض غاياته مع عدد كبير من النساء لكن بلقيس كانت له بالمرصاد مما منح الرواية ابعادا فكرية ورمزية اخرى. لقد جمع الروائي في هذا العنوان العناصر الرئيسة الثلاثة في الرواية وهي سعود وبلقيس والهدهد، إذ استخدم الروائي اسلوب المجاز المرسل أحد أساليب علم البيان في البلاغة العربية من خلال الكلية، فهذا الاسلوب الذي تستخدم كلمة في غير معناها الحقيقي لعلاقة غير المشابهة يشترط وجود قرينة مانعة من ارادة المعنى الاصلي و يمكن القول كذلك ان الروائي استخدم اسلوب (الإيجاز ) احد اساليب علم المعاني في البلاغة العربية ونوعه المعروف بايجاز الحذف. وعنوان الرواية عنوان ناجح يمتاز بالإيجاز والدلالة الموحية وهوعنوان ذو جمالية خاصة ووقع رشيق على المتلقي وملائم لتفاصيل الرواية وجزئياتها ويرى القاص عبد الرحمن مجيد الربيعي أن هذا العنوان هو الأوفق للرواية في دراسته التي اشرنا اليها ص75. أثار موضوع الرواية أو مضمونها جدلاً آخر، فقد أراد بعض النقاد أن يثبت إمكانية دراسة الرواية عن طريق الإحالة الى قصة النبي سليمان والهدهد ومملكة سبأ كما فعل توفيق الحكيم في مسرحية سليمان الحكيم ، وهو ما رأته الباحثة بلقيس محسن هادي وتبعها في ذلك الناقد الدكتور حسين سرمك والنقاد العراقيين حمزة مصطفى ومحمود موسى وباسم عبد الحميد حمودي وعبد الواحد محمد ونهى الدرويش وغيرهم ـ جريدة الثورة العراقية مصدر سابق ـ ونعتقد ان الرواية اكتفت بالأشارة الى الخلفية الميثولوجية والتاريخية واقتباس النص الذي يرد فيه ذكر للنبي سليمان على نحو عابر، وعلى هذا الأساس لم تقدم الرواية احالة واضحة الى هذا الامر وان من الادق عند تحليل الرواية الاخذ بفكرة عظم الهدهد وتأثيره الخرافي والاسطوري، وتصنيفها ضمن الواقعية السحرية التي حفلت بها الرواية المعاصرة بما تقدمه من عوالم غرائبية ممتعة ومدهشة للقارئ، لكننا نحترم آراء الاخرين الذين ذهبوا الى المعنى الرمزي في موقف بلقيس التي تمثل الارادة العربية في الصمود والثبات وكذلك تمنح المرأة قوة ومنعة بوصفها نصف المجتمع القادر على البناء والعمل وتحديد مسارات حياته على وفق الطريق الصحيح والقويم والقائم على العلم والعمل وتحدي الموروث البائد والقديم المعوق لنهضتنا المعاصرة بصرف النظر عن ما يصادف المرء في الحياة من صعوبات وعقبات هي من طبيعة الحياة وكيانها القائم على التواصل والصبر والعمل. |
|