تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


من يصنع الهوية

ملحق ثقافي
6/10/2009
خيري الذهبي

في حوار أجري معي منذ سنوات انفلتت مني ملاحظة ما لبثت فيما بعد أن جعلتني أفكر فيها وفي مدلولها عميقاً.

‏‏‏

هذه الملاحظة أن بلاد الشام كلها لم يصدر عنها قصة حب نموذجية واحدة، وأن كل قصص الحب التي يتداولها الشاميون هي قصص جرت في أماكن بعيدة، ولدى عشاق آخرين، فقصص الحب التي نتداولها في الشام دائماً قصص بدوية عن حجازيين ونجديين بعيدين، قيس بن الملوح وليلى، قيس بن ذريح ولبنى، عنترة وعبلة، جميل وبثينة.. إلخ.‏‏‏

بينما تزهو مصر بقصة (حسن ونعيمة)، وهي قصة مصرية فلاحية، وتزهو إيران بقصة يوسف وزليخة وتزهو إنكلترا بقصة روميو وجولييت، وفرنسا بقصة تريستان وإيزولده.‏‏‏

وكان لا بد أن أتساءل، فلماذا لم تخلّد الشام قصة حب جرت على أرضها، وبين شبانها وفتيانها، وفي الذاكرة قصص كثيرة، ولكنها لم تكتب، أو تكرس أو تعمم لتصبح نموذجاً عذرياً أو فروسياً للحب.. .. وكنت قد أجبت في ذلك الحين، وربما لم يكن جوابي صحيحاً تماماً، ولكني قلته، وهو أن الشاميين من ديار بكر إلى عسقلان تثقلهم روح الدكنجي، ذلك الرجل صاحب الأحلام الصغيرة والطموحات الصغيرة، والخوف الكبير من الغد، فهو لا يعرف ما يحمل له الغد من قحط، أو غزو، أو جراد، أو طاعون، أو حاكم ظالم يأكل الأخضر واليابس ويجيع شعبه، لذا لجأ الدكنجي إلى التقتير في كل شيء، خوفاً من الغد، ومن هذا التقتير، التقتير في العواطف وإعلان الحب، فالحب الكبير الذي عاشه البدوي المغامر قيس بن الملوح وروميو الإيطالي زمن عصر النهضة والمغامرة الأوروبية للخروج من المكان كان يعني أن يحمل العاشق قلبه خارجاً عن صدره ويضعه على الطاولة ويقول بلغة المقامرين: صولد، أي إما المعشوق أو الموت، ولكن الدكنجي لا يمكن له أن يغامر هذه المغامرة النهائية، بل يفضل المساومة والمداهنة والتقرّب والمثل الفظيع الذي يرددونه (شي منه ولا كله) مثل مرعب عن هذا الرضا بالقليل وما هو خير من المقامرة بالكل.‏‏‏

على أية حال ما ذكرني بكل هذه المقدمة مادة كنت أقرأها والتي أطلقت مقولة لكونفوشيوس، الفيلسوف شبه النبي الصيني يقول: (إذا أردت أن تتعرف في بلد على نوع إرادته ومبلغ حظه من المدنية فاستمع إلى موسيقاه).‏‏‏

وأصبت بالذعر، فما هي الموسيقى أو من هو الموسيقي والملحن والمطرب الذي يمكن لك أن تعلن أنه ممثل سورية المعاصرة، موسيقياً، أو تلحينياً، أو طرباً، فمصر استطاعت في القرن العشرين أن تكرس أسماء كثيرة وعلى رأسهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، بل حتى فريد الأطرش وأسمهان وفايزة أحمد السوريين وها هي لبنان تقفز قفزة هائلة في تكريس هوية لبنان، بل وحتى في التغطية على الهوية السورية في كثير من مظاهر الفن في تقديمها للرحبانيين وفيروز.‏‏‏

أما في سورية، فكلما ظهر عَلَم وجدت خصومه يقللون من أهميته ويلقون عليه حجب النسيان والتناسي، والسخرية، بل حدثني أحدهم أنه في إحدى الاحتفالات الشبابية في أوروبة الشرقية أيام كانت اشتراكية، وكانوا قد طلبوا من ممثلي كل قطر أن يغنوا الأغنية التي تمثل وطنهم، فحار الوفد السوري فليس لديهم، أي السوريين أغنية تمثل سورية فاضطروا بعد تداول طويل بينهم أن يغنوا أغنية فيروز التي وضعها أصلاً ولحنها وغناها سيد درويش المصري وهي طلعت يا محلى نورها شمس الشموسة..‏‏‏

ما ساقني إلى كل ما سبق اكتشافي أن أغنيتين مشهورتين نرددهما ولا نعرف العبقري الذي غناهما ولحنهما وهما يا طيرة طيري يا حمامة، ويا مال الشام يلله يا مالي، وأعني بهذا العبقري، أبو خليل القباني، هذا العلم الذي وضع الأساس للمسرح الموسيقي في العالم العربي، أي في الشام ومصر، والذي لحن عشرات المسرحيات الغنائية، وألف عدداً كبيراً من المسرحيات الغنائية والذي لا يعرف غير المختصين عنه الكثير، فلماذا يكرس المصريون – وهذا حقهم – العلم الكبير سيد درويش، وعبده الحامولي، وسلامة حجازي، والقباني يفوقهم جميعاً. ولا تعرف أجيالنا الشابة عنه إلا اسمه الذي ذكره المرحوم سعد الله ونوس في مسرحيته السجالية مع الرجعية الدينية كما تصورها في مسرحيته سهرة مع القباني، فلم تزدنا المسرحية معرفة بأبو خليل إلا أنه ضحية الرجعية فقط.‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية