تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


جدارّيات ( نجيب محفوظ الغائب .. الحاضر)

ملحق ثقافي
29/9/2009
د. عبد المالك أشهبون/ المغرب

لا بد من الاعتراف في هذا المقام التذكري الخاص، أننا هنا بصدد التوقف عند تخوم قارة أدبية مترامية الأطراف، وأمام قمة سامقة من قمم السرد في العصر الحديث (عربيا وعالميا).

إننا إزاء شخصية قلما يجود الزمان العربي (الرديء بكامل الأسى والأسف) بمثلها...إنها شخصية نجيب محفوظ الكاتب والروائي والقصاص والمسرحي وكاتب السيناريو...‏

نجيب محفوظ: وارث لسر الصناعة الشهرزادية بامتياز، وصاحب رؤية تجديدية في الرواية العربية على طول مسارها الممتد من جيل الرواد (رفاعة الطهطاوي، جرجي زيدان محمد المويلحي، حسنين هيكل..)، مروراً بجيل طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد.. الذين ساهموا، من جهتهم، في تعبيد الطريق أمام تيار الواقعية الذي ازدهر على يد نجيب محفوظ، ناقلاً بذلك الكتابة الروائية من عثرات التأسيس المتكررة إلى مرحلة التجنيس، حيث غدت الكتابة الروائية جنساً أدبياً قائم الذات، مستقل الكيان الرمزي، له عشاقه ونقاده والمهتمون به على أكبر نطاق.‏

مع نجيب محفوظ لم تعد الكتابة الروائية أقل شأنا من الشعر الذي كان يشكل ديوان العرب بامتياز، بل غدت الرواية ديوان العرب الأكثر إثارة للانتباه في الأزمنة العربية المعاصرة.‏

نجيب محفوظ الذي تغير مسار الكتابة الروائية عنده، ولم يتوقف في نموذج محدد بعينه، بدءا بالرواية التاريخية (“عبث الأقدار”، “كفاح طيبة” و”رادوبيس”...)، والرواية الواقعية (“القاهرة الجديدة”، “خان الخليلي”، “زقاق المدق”، “الثلاثية”....)، إلى حين انعطاف تجربته الروائية، بعد أن غدت رواياته اللاحقة رمزية وذات بعد فلسفي (“أولاد حارتنا”، “اللص والكلاب”، “السمان والخريف”، “الطريق”....)، وصولا إلى الرواية الملحمية (روايته الشهيرة “ملحمة الحرافيش”) والسيرة الذاتية (“أصداء السيرة الذاتية.‏

خلال كل هذه المراحل، كان محفوظ يغير أسلوب كتابته كلما أحس أن النقاد (والقراء عامة) قد اطمأنوا إلى تصنيفه في خانة جمالية محددة؛ وكأننا بنجيب محفوظ يراهن في استراتيجية رؤيته الإبداعية على ما لا يدوم ولا يستقر ولا يستكين؛ لأن مفهوم التجديد لا يمكن تحقيقه بالأشكال الثابتة، والأساليب المتواترة، والأبنية النمطية. ومن ثمة، فإن كل كتابة مقولبة، تخطئ مفهوم التجديد ـ في العمق ـ حتى وإن كانت تراهن عليه، وتنطلق من شعاراته.‏

نجيب محفوظ الذي نقل الثقافة العربية، ومعها الإبداع العربي من عالم المحلية الضيق إلى فضاء العالمية بمفهومها الواسع، حيث فتح الباب مشرعاً أمام إعادة الاعتبار للذات العربية التي عانت ردحاً طويلا من نظرة الآخر الدونية الذي لم يكن يعرف عن ثقافتنا العربية المعاصرة إلا النزر القليل....خصوصا بعد أن توج فائزا بجائزة نوبل للآداب يوم الخميس 13 أكتوبر 1988...‏

نجيب محفوظ الذي ظلمه ذوو القربى، سواء بالعنف الرمزي من خلال الجدال البيزنطي العقيم فور تلقي المثقف العربي نبأ فوز محفوظ بالجائزة اللعينة. حينها تراوحت ردود الفعل من هذا التتويج، عن جدارة واستحقاق، ما بين محتف بهذا الحدث الاستثنائي في تاريخ الأدب العربي، معتبراً أن الجائزة جاءت متأخرة ما دامت أعمال محفوظ تستحق هذا التتويج منذ سنوات خلت، وما بين متشكك ومنزعج من التتويج، ليس لعدم أحقية محفوظ لنيل الجائزة، ولكن لأن الجائزة (حسب زعم هؤلاء) مكافأة ملغومة لمواقف محفوظ الداعمة لما يسمى بـ«عميلة السلام» في الشرق الأوسط…، سيما وأن السادات كان قد نال جائزة نوبل للسلام من قبل، وقد عدت الجائزة «من قبيل المساومة على السلام المستحيل بين العرب وبين الصهاينة»، فنظر إلى الأمر وكأن الأكاديمية السويدية تريد أن تجعل من الاعتبارات السياسية مشترطات لا غنى عنها لحيازة اللقب الدولي المجيد.‏

نجيب محفوظ الذي ظلمه قومه كذلك من خلال الاعتداء الجسدي عليه (1994)، والذي كاد أن يودي بحياته، بدعوى تكفيره، وإهدار دمه من جراء فتاوى فقهاء التطرف، وخفافيش الظلام...‏

نجيب محفوظ الذي ظل شفافاً وصافياً، ومنسجما في مواقفه السياسية التي عكستها بعض رواياته. فهو لا يخفي تذمره من بعض مواقف ثورة يوليو، وما شابها من انحرافات وشطط كبيرين، انعكسا سلباً على أهداف الثورة المعلنة. فقد وصف محفوظ نظير هذه السلبيات في كثير من أعماله الروائية، وعلى سبيل المثال “السمان والخريف” (1962) و” الكرنك” (1947) و”أمام العرش” (1983) و”ميرامار” (1967)… ولم يغير مواقفه بتغير طبيعة النظام السياسي في مصر كما فعل الكثيرون جبناً ونفاقاً وحربائية...‏

وأخيراً نعود إلى السؤال/الإشكال: هل يمكن أن يجود الزمان العربي بمثل هذا المبدع/العبقري؟‏

أقول: أعطونا زمناً عربياً حافلا وغنيا ومنفتحاً كالذي عاشه نجيب محفوظ مع كوكبة من العمالقة الذين عاصروه في الفن والسياسة والإبداع والسينما...نطمئنكم أنه بالإمكان أن تتعدد هذه الظواهر الاستثنائية في ثقافتنا العربية، والحال أن العكس هو السائد، فإنه من الصعب، جدا جداً، تصور إعادة إنتاج ظاهرة نجيب محفوظ في عالم الإبداع العربي بصفة عامة...‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية