تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


المسرح منابر الأمس ومقابر اليوم

ملحق ثقافي
29/9/2009
طلال نصر الدين

شهدت فترة الخمسينات - من القرن الماضي - حراكاً وجدالاً سياسياً وفكرياً وثقافياً، لم تشهدهما سورية ربما بكامل تاريخها السابق.

‏‏‏‏

وكنتيجة لذاك الحراك، بدأت كل المظاهر الثقافية والفنية لا بإيجاد مكان لنفسها في البناء الاجتماعي العام بل بالتجادل والانتعاش، وكان للفعاليات المسرحية نصيبها، فظهرت الكثير من الفرق والوجوه والشخصيات المسرحية.‏‏‏‏

أسفرت كل تلك المخاضات عن الحاجة الاجتماعية المتنامية للثقافة والفن وكافة أشكال التعبير في المجتمعات الآخذة بالتطوّر والتمّدن والخروج من لدن العلائق الإقطاعية، فبزغت فكرة إنشاء المسرح القومي قبيل الستينات كاستجابة لتلك الضرورات والحاجات. وما إن بدأ المسرح القومي بإنتاج أعماله الأولى، حتى بدأ يجد جمهوره ويؤسس لفاعلياته اللاحقة، ولم يعد مجرّد شكل من أشكال التعبيرات الجمعية فحسب، بل صار ظاهرة فاعلة ومخلّقة للوجدان الجمعي ذاته وعلى مدى عقد كامل.‏‏‏‏

‏‏‏‏

بالتوازي والتنافس، كانت المسارح الأهلية والفرق المختلفة تؤسس لنفسها، وتصبح شريكاً في ظاهرة المسرح في الحياة السورية، ولأن ذلك التنافس كان صحياً ـ بالقياس إلى بقية أشكال التنافس حيال الظواهر المجتمعية المختلفة ـ كنا نرى الكثير من الفنانين يعملون هنا وهناك.‏‏‏‏

قبيل، ومع أوائل السبعينات، صار للمسرح - عموماً - وللمسرح القومي بشكل خاص حضوراً وجمهوراً عريضاً، وبدأت الأسماء المسرحية الفاعلة في تلك الظاهرة تمسي شخصيات جماهيرية نوعاً ما، مثلما بدأ أهل ذلك الزمن يرددون أسماء نهاد قلعي، عرسان، فضة، فتحي، بقدونس، حنا، لطفي، أبو غزالة، السبيعي وغيرهم.‏‏‏‏

لم ينصرم عقد السبعينات إلا وقد بدأت بالتوافد أسماء جديدة من دارسي المسرح في الخارج، حيث وجد أولئك أنفسهم أمام ضرورة لا بدّ منها لازدهار المسرح عموماً والمسرح القومي خصوصاً وهي رفد هذا المسرح بدماء متجدّدة أبداً وعلى نحو برنامجي دائم، فبدأ ذلك المسرح يجد روافده من مسارح الهواة - الجامعي - الشبيبة - العمال - ولم يكن ذلك كافياً، حيث بدأت تطلّ برأسها ضرورة إنشاء معهد مسرحي مع ذلك الازدهار المتصاعد تباعاً للمسرح، وحضور عقليات جديدة ذات خبرات مختلفة ونوعية، بحيث كانت معظم الأعمال سواء أعمال المسرح القومي، أو أعمال الفرق الأهلية، أو حتى فرق الهواة لا تجد جمهورها فحسب، بل تكتظ بالجمهور حتى آخرها، وتدريجياً كانت التقاليد المسرحية تتجذر وتتنامى وتتشظى نحو المحافظات حتى النائية منها.‏‏‏‏

ازدهر مسرح السبعينات إلى تلك الدرجة التي يمكننا القول معها إن المهتمين كانوا يتابعون كل مجريات المسرح وحتى الكواليس المسرحية، وبدأت الأسماء المسرحية الهامة من كتاب ومخرجين وممثلين تفرض حضورها في عالم الأدب والثقافة والفن، ولست أبالغ: لم تكن جلسة تخلو من ذكر اسم أحد مسرحيي تلك الفترة: قلعي، لحام، عرسان، فضة، ونوّس، الساجر، الإدلبي، الجندي، وبالتوالي: عدوان، الماغوط، خضور، الراشد، القوتلي، الأطرش، العويتي؛ ناهيك عن أسماء ممثلين لا تعد ولا تحصى بدءاً من الممثلين في مرحلة ما بعد الخمسينيات: السبيعي، حجو، فتحي، فؤاد، ثم من أجيال لاحقة كعساف وقدسية وكثيرين غيرهم،‏‏‏‏

‏‏‏‏

وليعذرني أولاً أولئك الذين ذكرت أسماءهم لأني لم أفها حقها وثانياً أولئك الذين لم أذكر أسماءهم، إذ أن الإحاطة بأعمال تلك الفترة تتطلب مؤلفاً كبيراً لا مقالاً متواضعاً كهذا. وعلى أي حال فكل ما أرغب قوله من هذه الفقرة إنه وحتى تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية، أوجدت الحركة المسرحية عندنا ممثلياتها وفاعلياتها التي تجاوزت أهميتها الساحة المحلية لتصبح أسماء لامعة في الأوساط الثقافية والفنية العربية، وبعض هذه الأسماء ستتجاوز حتى محيطها العربي لتترجم إلى الكثير من اللغات الأجنبية.‏‏‏‏

على هذه الأرضية الموّارة بالفعاليات انبثقت فكرة ضرورة إنشاء معهد مسرحي من ناحية، ومسرح قومي جديد لائق وقادر على تلبية حاجات المسرحيين المتصاعدة المستوى، بالصورة التي تليق بجمهوره المتنامي أيضاً من ناحية ثانية، إذ أن مسرحينا - الحمراء والقباني - لم يعودا كافيين لتلبية المتطلّب المسرحي الاجتماعي بكامل طيوفه وتياراته.‏‏‏‏

افتتح المعهد العالي للفنون المسرحية - في دمر - وتوقع الكثيرون أن يشكل خرّيجوه الرافد الأساسي والأهم للمسرح القومي بشكل خاص، وللحركة المسرحية عموماً، مثلما توقع الجمهور المسرحي نفسه، أن تضعنا هذه المنجزات وضمناً المعهد المسرحي على عتبات مسرحية أكثر أهمية من كل ما سبق، كتشكيل فرق مسرحية جديدة والتأسيس لظاهرات مسرحية، وأيضاً التأسيس لأدب مسرحي وحركة نقدية مسرحية. لكن شيئاً من هذا لم يتحقق!! لماذا؟ سنجيب على الجانب المتعلق بالمسرح القومي، ونترك الإجابة على القسم المتعلق بالمعهد المسرحي وفاعلياته ومسؤولياته حيال الوضع المسرحي العام منذ تأسيسه وحتى الآن لمقال لاحق إن أتيح لنا ذلك.‏‏‏‏

إذاً، وحتى تخريج الدفعة الأولى من المعهد، كنا أمام إرث مسرحي عريض، وأسماء مسرحية لامعة كتاباً ومخرجين وممثلين وفنيين!! وكانت لدينا تقاليد متجذرة ونوعية بالقياس إلى ما سبق؛ فمثلاً طرد فنانون كبار من المسرح لأنهم كانوا يلغطون بموضوع جانبي أثناء التدريبات، وطرد آخرون لأنهم دخلوا إلى المسرح وهم يضحكون بأصوات عالية. أذكر أننا لم نكن نجرؤ على الحديث منذ لحظة دخول مسرح القباني إلا همساً وللضرورة فقط، أذكر أيضاً أن حرمة دخول المسرح فحسب كانت تتطلب منا أن نقوم بفعل ما يضارع خلع الأوروبيين لقبعاتهم عندما يرتادون المسرح!!! فماذا يمكنني القول بعد هذا عن حرمة البروفة مثلاً!!! سأقول شيئاً واحداً: كان تأخر الممثل عن الحضور إلى البروفة بعد الوقت المحدد بربع ساعة على الأقل لا يعتبر عيباً فحسب بل خيانة مهنية نوعاً ما، ولطالما استبعد ممثلون لأسباب كهذه أو حتى أقل أحياناً.‏‏‏‏

بالعودة إلى موضوعنا، مع تخرّج الدفعات الأولى بدا كل شيء مبشراً، فعرضا التخرج لأول دفعة لم يلقيا جمهوراً عريضاً فحسب بل إن الحماس وصل بالجمهور المكتظ في الصالة في نهاية العرض إلى التصفيق جذلاً ثم الصعود إلى الخشبة لتهنئة الممثلين، وبعيون طافحة بما يمكنني أن أسميه امتلاءً جمالياً.‏‏‏‏

‏‏‏‏

أمام تلك الولادة ذات الزخم العالي كان ينبغي على وزارة الثقافة أن تنظر لوليدها ذاك بجدية، وأن تعيد هيكلة مديرية المسارح إدارياً بما يستوعب إمكانات وطاقات الوافدين الجدد ليمظهرها على نحو مسرحي خلاق.‏‏‏‏

لكن ذلك لم يحدث. لماذا؟؟ وإذا أخذنا بالاعتبار أنه لدينا على الأبواب دفعات أخرى ستتخرج أيضاً!! وسيكون لدينا رهط من الخريجين بعد سنوات، فستبدو فداحة هذه النقطة جلية.‏‏‏‏

هل افتقد خريجو الدفعات الأولى إلى روح المبادرة، ولهذا لم تجد لها مكاناً في الساحة المسرحية في بلدنا؟ لا، إذ أنه ما إن بدأ أولئك بالخروج من عقلية الطالب حتى بدأت المشاريع المسرحية تطلّ برأسها وبدأ مشروع فرقة مسرحية بالتشكل مع مسرحية المخططون إخراج أيمن زيدان، لكن هذه الظاهرة لم تستمر. لماذا؟‏‏‏‏

فيما بعد سيحاول الدكتور شريف شاكر النهوض بمشروع مسرحي رائد، وهو الحصول على صالة عرض لتقديم عروض مسرحية فقط وبشكل برنامجي دائم، وسيقف الكثير من المسرحيين مع المشروع، لكن المشروع سيوأد. لماذا؟‏‏‏‏

ربما لأنه حاول العمل بإطار أهلي على نحو مغاير للمسرح التجاري آنذاك، لكن يبقى هذا الإطار إطاراً أهلياً، ولهذا ستنظر إليه الجهات صاحبة القرار بشكل عدائي وستحطمه، لذلك سيحاول بعض المسرحيين- وهم في معظمهم من خريجي المسرح - أن يبعثوا إلى الحياة مشروع المسرح الجوّال – الذي كان قد أخمد هو الآخر- وضمن واحدة من تلك المحاولات التي بحثت عن متنفس داخل أطر مديرية المسارح، وهذا المشروع سيوأد بدوره!! لماذا؟‏‏‏‏

مع إحباط كل المحاولات المسرحية الجادة، بدأ المسرح القومي يتحوّل إلى مجرّد مؤسسة هيكلية، مؤسسة تنفذ برامج ورقية ليس لها أي مردود جمعي... مؤسسة تزيينية عملياً، والأعمال التي كانت ترى النور بشكل لائق لم تتعدّ حدود المبادرات المسرحية غير المخصبة، بينما تحوّل أولئك الذين يتمسكون بخياراتهم المسرحية إلى حمقى أو أشباه حمقى.‏‏‏‏

الخريجون المسرحيون كانوا يتزايدون تباعاً - دفعة كل عام - والجهات المعنية بما فيها الجهة القائمة على المعهد المسرحي، أي وزارة الثقافة، لم تبالِ حتى بإيجاد فرص عمل متواضعة لهؤلاء فحسب، بل جعلت من المؤسسة التي يمكن أن تدير أو تحتوي أنشطتهم وتفعّل طاقاتهم، مؤسسة شكلانية لا فاعلية لها، وأولئك الذين حاولوا الخلاص بالعمل في التلفزيون أو الإذاعة أو السينما ونجحوا بذلك هم قلة قليلة، إذ في تلك الفترة نحن أمام واقع حال مؤلم: فيضٌ من الخريجين المتزايدين تباعاً دون إطار عملي فعال، انصراف عام من الممثلين عن المسرح لأن 100% من المحاولات محكومة بالفشل، وبالنتيجة انصراف الجمهور عن المسرح سواء القومي أو الأهلي وبنسب متفاوتة لكن بوتائر متصاعدة.‏‏‏‏

في ظلال تلك الأيام، رفع الكثيرون أصواتهم وقد طالب البعض - حتى من الخريجين السابقين - بإغلاق المعهد العالي للفنون المسرحية، بينما ارتفعت أصوات كثيرة تطالب بإلغاء المسرح القومي برمته من حياتنا، إذ أنه أضحى مؤسسة تستنزف جزءاً كبيراً من ميزانية وزارة الثقافة دون أية مردودية.‏‏‏‏

لست أوافق الرأيين، ولا ألوم أصحابهما بطبيعة الحال، فإن ما كان يدفعهم إلى قول ذلك هو ألمهم وهواجسهم الفنية فحسب، كانوا يرون المشكلة لكن الحلول التي اقترحوها كانت غاية في التطرّف، وحقيقة الأمر أن تلك الأصوات، كانت تدلل على وجود مشكلة عميقة في البنيان المسرحي العام مثلما كانت مؤشراً لانهدامات خطيرة في مجمل البنى الثقافية، وفي الحدود الدنيا كنا أمام مشكلات تستوجب المعالجة، لكن المسؤولين كانوا أذناً من طين وأخرى من طين أيضاً!!! والمسرحيون الذين نشطوا خلال الستينات والسبعينات والذين كانوا أجزاء فعّالة من النسيج العام في تاريخ مسرحنا، انقرضوا أو يكادون: فقسم منهم يلفظ آخر مشاريعه المسرحية، وآخر انكفأ بالكلية إلى عوالم أخرى، وأولئك الذين تسنموا مواقع المسؤولية والقرار إما فقدوا الحماس أو الطاقة، أو ارتكنوا إلى مبدأ: من لا يعمل لا يخطئ!!! لماذا؟‏‏‏‏

إذاً مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات نحن أمام انصراف عام عن المسرح من قبل المسرحيين أنفسهم ومن قبل الجمهور بطبيعة الحال، نزف حاد في الطرفين، ولا أحد يرغب أو يقدر على فعل شيء لأن القائمين على القرار المسرحي لا يريدون أو لا يستطيعون فعل شيء.‏‏‏‏

مسرحيون يمضون، وآخرون يترحّلون لإيجاد فرص عيش خارج البلاد، وخريجون أمام شبح العطالة.‏‏‏‏

مع بداية التسعينات بدأت تطلّ برأسها أوليات الحالات التبشيرية بعالم جديد، عالم الفضائيات والإنترنت والتقانات العالية، أو عوالم الاتصالات الجديدة. نحن أمام ثورة تقنية عالمية توشك على تغيير عقليات البشر وكامل آليات التواصل فيما بينهم بكامل كرتنا وينبغي أن نستعد للتعامل مع معطيات مختلفة جذرياً ... صرخنا مرة أخرى لكن لا حياة لمن تنادي. لماذا؟‏‏‏‏

من الآثار الجانبية لحاجات العالم الجديد حاجة الفضائيات إلى المزيد والمزيد من الإنتاجات التلفزيونية: مسلسلات، أعمال دوبلاج، وهكذا ابتلعت حاجات الفضائيات البقية الباقية مِنْ مَن كان يمكن أن يكونوا طاقات مسرحية، وبدلاً من أن يصبح الفنانون - الكتاب - المخرجون جزءاً من مشروع مسرحي نهضوي عام، صاروا وقوداً للمنتج التلفزيوني، حيث مضت صيرورة هذا الأخير إلى هدفيّتها الأساس لتصبح جاذباً إعلانياً بالدرجة الأولى.‏‏‏‏

ستخف حدّة العطالة بالنسبة للممثلين بطبيعة الحال، وإذا كان ذلك التغيير قد انعكس إيجاباً على ذلك العدد الكبير من الخريجين، فقد كان له أسوأ الأثر على المسرح بشكل عام، إذ لم تعد توجد بنية تحتية ثابتة لأية فاعلية مسرحية نتيجة لانصراف الممثلين والكتاب والمخرجين من ناحية، ولانصراف الجمهور من ناحية ثانية.‏‏‏‏

مرة أخرى كان ينبغي وضع خطط عمل فعالة لإنعاش المسرح وإعادته إلى مجمل الفاعليات الجمعية، خطط سنوية وخمسية وعشرية كما يحصل في المجتمعات المتقدّمة، مرة أخرى كان يجب أن نفعل ما يمكن فعله لوقف النزف المسرحي المتتابع جراء السعار الإنتاجي التلفزيوني المتصاعد، وانصراف الفنانين عنا، لكن كيف يمكن ذلك ورؤوس مؤسستنا ذاتهم تتناهبهم الأعمال التلفزيونية ويصورون أحياناً في عدة أعمال تلفزيونية في الوقت ذاته، ونادراً ما يتواجدون على رأس عملهم!!؟‏‏‏‏

لا أدري ولا أحد يدري كيف استطاع المسرح القومي خسارة كل استحقاقاته، بما فيها ذلك الصرح الذي كان ينبغي أن يكون مسرحاً قومياً فتحوّل إلى مؤسسة مستقلة مالياً وإدارياً ولا شأن لا لمديرية المسارح ولا للمسرح القومي بها، ذلك الصرح الذي ينبغي أن يكون منبراً لأهم مؤسسة مسرحية في البلاد المسرح القومي والذي ينبغي - رسمياً - أن يكون ممثلية ثقافية وفنية للمجتمع برمته ممثلاً بالدولة.‏‏‏‏

وبقفزة واحدة من أواخر التسعينات حتى الآن لا يمكنني أن أضيف الكثير إلى ما يعرفه قارئنا لأنه عاصر أحداث هذه الفترة مثلي أو حتى أفضل، لكن ومن باب التذكير يمكننا القول إن كل ما جرى: هو تغييرات إدارية مختلفة، لم تقدّم للمسرح أي شيء يذكر سوى الدروب المفتوحة على الخراب والتحلل تصاعدياً، تغييرات في الأسماء والأشخاص، على ذات البنية الهشة تحتياً، وللرائي يبدو الوضع اليوم أكثر سوءاً من كل ما سبق بالنسبة للمسرح القومي إذ انعدمت في كواليس مسارحنا حتى أكثر التقاليد المسرحية بديهية، بحيث صار أياً كان قادراً - لا على استباحة الفعالية المسرحية أو الحرم المسرحي- بل على زج اسمه ضمن فعاليات المسرح القومي مباركة بجنوح إداراتنا إلى دفن ما تبقى من آخر بوادر الاحترام للمسرح بحيث تجرأت مديرية المسارح على منح من لا كفاءة لديه ولا حتى شهادة مدفوعة الثمن لقب مخرج – وحتى يزيد الطين بلة- وسينوغراف أيضاً كما ذكرت في إحدى مقالاتي، وتم التجرؤ لا على مستحقاتنا فحسب بل على أسمائنا وألقابنا، وبدلاً من الأسماء المسرحية التي كانت تتسنم منابرنا: كونوّس وفضة والساجر وعدوان وغيرهم، لدينا أسماء جديدة لا أدري إن كانت لديها تلك الخاصية التي تميز بها أولئك، وهي احترام المسرح قولاً وفعلاً وجعل حرمة المسرح مقدّسة أو تكاد!!! لكي اختتم موضوعي لا بد لي من الإجابة على بعض الـ «لماذات» التي تركتها خلفي.‏‏‏‏

بعض المهتمين المسرحيين اليوم ينظرون إلى ما نحن فيه، فيترحمّون على إداريي الأمس، وكلما رأوا سيئاً، ترحمّوا على الماضي أكثر، لكن هذا خطل صريح وزوغان في الرؤيا، فأولئك الذين مضوا بالأمس أسسوا فعلياً لما نحن فيه اليوم، وإداريو اليوم هم الأبناء الفعليون لإداريي الأمس، ولو لم يوجد الماضون التربة الصالحة والسماد المناسب لما نحن فيه لما وجد حاضرنا بسوئه أصلاً!!!‏‏‏‏

لقد مضى من مضى من المسرحيين، البعض دون أن يكملوا مشروعهم: فواز الساجر هنا وشريف شاكر هناك فيما يشبه المنفى، والبعض أخذتهم آجالهم سعد الله ونوس، ممدوح عدوان، محمد الماغوط وكثيرون غيرهم، وهؤلاء خلفوا لنا إرثاً من الممكن استتباعه، لكن ليس في ظل ما نراه ونلمسه الآن، فالعقليات التي أودت بنا إلى هذا الوضع الكارثي نسخة كربونية عن ما سبقها، والمنظر المسرحي بائس بالكلية، والقادم أعظم.‏‏‏‏

وبالرغم من كل ما نحن فيه الآن، فإن إعادة إنعاش الفعاليات المسرحية ممكنة، وإعادة المسرح إلى الفعل في - وتفعيل - الوعي الجمعي ممكنة، وما يلزمنا فعلياً هو إعادة بنينة المؤسسات المسرحية مالياً وإدارياً بحيث تستطيع وضع برامج عمل ملزمة وفاعلة: والأمر يبدأ ببساطة بوضع سلالم أجور أو مكافآت واضحة لا لبس فيها ولا تتيح لأي كان التحكم في ميزانية المسرح سوى المعنيين بالأمر، بوضع قواعد تشغيل لا لبس فيها لمن يمكن ومن لا يمكن أن يعمل في المسرح القومي أعلى مؤسسة مسرحية في البلاد، بمنح هذا المسرح السلطة كاملة - ودون وساطة أو مشاركة - عدداً كافياً من الإعلانات الطرقية الكبيرة والصغيرة الضوئية وغير الضوئية، ووضع قوانين ملزمة لكل المنابر الإعلامية: تلفزيون، إذاعة، صحف لتقديمنا بالشكل اللائق واجتذاب جمهورنا.‏‏‏‏

ما يلزمنا هو القليل والقليل فحسب من الجدّية في التعامل مع الشأن المسرحي، فهل هذا ممكن!!؟‏‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية