|
ملحق ثقافي
مصطلح شاع بشكل لافت للانتباه، عقب تحرر الشعوب من الاستعمار الحديث، وقيامها بالبحث عن هويتها، والقواسم المشتركة التي تجمعها مع الشعوب الأخرى، غير أن هذه النزعة التي تساوقت مع ظهور مصطلح )فولكلور( وتجسدت بمجموعة كبيرة من الدراسات، التي أخذت طريقها إلى بطون الكتب، وصفحات الجرائد والمجلات، وفيما بعد، إلى مجموعة من الأفلام الوثائقيّة التي رصدت بالصورة والكلمة، الحياة التقليديّة للشعوب والأمم، هذه النزعة لم تنحصر بوقتنا الحالي، ولا هي من تداعيات ظهور مصطلح
(فولكلور) وإنما ذات جذور بعيدة في التاريخ امتدت حتى زمني )هيرودوتز( و)استرابون( وعلى غرارهما نهج )ابن خلدون( في مقدمته، بهدف استقصاء التاريخ وقراءته، عبر مظاهر حياة الطبقات الشعبيّة العاملة في مجالات الحياة ومرافقها المختلفة. أما في أوروبا، فلم تبدأ هذه الدراسات جدياً إلا بعد أفول الحركة الكلاسيكيّة التي كانت شغوفة إلى حد بعيد، بحياة قدامى اليونان والرومان وآدابهم وفنونهم التي ظلت المنهل الرئيس لثقافاتهم، حتى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. حيث التفتت أوروبا، عبر بعض مفكريها وفنانيها، بتأثير الثورة الصناعيّة، والحروب، وسطوة الخواء الروحي عليهم، إلى الشعوب الأخرى في العالم، ليكتشفوا ثراء تراثها، وغناه الفني والإنساني.
في البداية، أخذت هذه الحركة الوطنيّة، السمة الأدبية البحتة الهادفة إلى الكشف عن عالم جديد تماماً، بين طبقات العوام والشعبيين، لكنها سرعان ما لفتت اهتمام العلماء والباحثين الاجتماعيين، بما تكشفت عنه من مظاهر الحياة الشعبيّة اليوميّة الغنيّة واللافتة (رغم بساطتها وعاديتها) سواء في المدن، حيث البائعون المتجولون، والقصاصون والرسامون الشعبيون، واللاعبون المشعوذون، أو في القرى حيث الرعاة والفلاحون. عالم بسيط وغني لقد كان هذا العالم الشعبي البسيط عديم الأهمية وتافهاً، بالنسبة للمفكرين والمثقفين والفنانين، وتالياً لا يستحق أي اهتمام، غير أن توجه الغرباء إليه، واهتمامهم الشديد بمكوناته وخصوصيته وبساطته وعفويته وصدقه وطرافته وبراءته الإنسانيّة، سرعان ما أزال الرماد عن جمر هذا التراث، لتتوهج حياة الشعوب والطبقات، وتتحول إلى مادة بحث وتمحيص للكثير من العلماء، وموضوع استلهام الأدباء والفنانين، الذين سرعان ما أشاحوا الوجه والعقل والروح، عن تابو التراث اليوناني والروماني، ليغرفوا من هذا النبع الجديد والثر الطافح بالصور الإنسانيّة الرفيعة القادمة من عمق الماضي السحيق، لتحدثنا عن عقليته وخصائصه وملامحه التي تبين أنها لا تنقطع ولا تغيب، وإنما تستمر، بأكثر من صيغة وشكل وأسلوب. ففي الحياة الشعبيّة، تتركز خمائر الحضارات القديمة، وفي إنسانها وعاداته وتقاليده وتفكيره وطراز حياته وفنونه، يستمر التراث ويتجدد، ومن خلال هذه الحياة وإنسانها، بالإمكان وضع اليد على المنهاج الذي سلكته البشريّة عبر الأزمان المختلفة.
متجذر وشمولي و(الفولكلور) كما اتفق العلماء، يشمل الفنون الشعبيّة، بضروبها وأجناسها وأشكالها كافة، لا سيما الفنون والآداب والموسيقا والرقص ... وغيرها من التعبيرات الروحيّة، إضافة إلى التعبيرات الماديّة كالرسم والتصوير والنحت والفنون التطبيقيّة والحِرف والصناعات اليدويّة التي تشمل النقش والعمارة والأثاث والأزياء والحلي وأدوات العمل ... وغيرها. والفنون بشكل عام، كانت في الشرق ولا زالت، في خدمة الحياة الماديّة والروحيّة للإنسان، بمعنى أنه لا يوجد في الشرق فن من أجل الفن، وإنما تُناط به جملة من المهام والوظائف المرتبطة بشكل مباشر، بحاجات الإنسان الماديّة اليوميّة المتعلقة ببدنه، والمعنويّة المتعلقة بروحه وأحاسيسه وعقائده وعاداته. لهذا اكتسب (الفولكلور) الشرقي خصائص ومقومات ميزته عن غيره، لا سيما في بلادنا العربيّة والإسلاميّة التي ظلت فيها الفنون (كمفهوم) مختلطة ومتماهيّة بين بعضها البعض: بين الفنون التشكيليّة الإبداعيّة السمة، والفنون التطبيقيّة والحِرف والمشغولات ذات الطابع العملي الاستخدامي. بمعنى أن إنساننا لم يكن يفرق بين (الفن) و(الصنعة) ما جعله ينظر إلى المشغولات اليدويّة (وفيما بعد المميكنة ذات الطابع الفني) على أنها جميعها تنضوي في خانة الفنون، من أجل هذا، اتسم ذوقه بنزعة فنيّة شعبيّة استخداميّة، وكل فن لا يمكن ممارسته وتوظيفه لخدمة الحياة اليوميّة، لا ينتمي بمنظوره إلى هذا الحقل.
الشفاهي والمادي اختلفت النظرة وتعددت إلى دلالات (الفولكلور) وماهيته وما يشمل من تراث الإنسان وثقافته. ففي حين ربطه بعض الدارسين والعلماء بالتراث الشفاهي، أدخل عليه البعض الآخر، المأثورات الماديّة، معتبرين أنه لا فرق بين التراث الروحي والتراث المادي للإنسان، فهما وجهان لعملة واحدة، وركنا الثقافة الشعبيّة. رغم هذا الاختلاف والتباين في الآراء، تجاه دلالات (الفولكلور) إلا أنها جميعها، ظلت تلح على قواسم مشتركة رئيسة لعل أبرزها وأهمها، شمولها لثقافة الشعب الشفاهيّة والماديّة التي حفظت لنا، وبشكل تلقائي وعفوي، عادات وتقاليد وأفكار ومعتقدات الإنسان الشعبي التي ساهمت بتكوينها، عناصر مختلفة، بعضها جاءه من الواقع المعيش والبيئة، وبعضها الآخر، وصله بالوراثة، عن أمه وأبيه وجده ومجتمعه بشكل عام، حيث تداخل فيه الواقعي بالخيالي، والحقيقي بالأسطوري، والمعقول باللامعقول، والمادي بالروحي، وهذه المقومات مجتمعة، هي التي شكّلت مزاج الجماعة وعبقريتها، مانحةً إياها وحدة عامة قوية الفعل والتأثير في أفراد المجتمع. بمعنى أن النزعة الفرديّة، كانت ضعيفة الحضور والتأثير في المجتمع المحصن بلحمة الجماعة وتماسكها. و(الفولكلور) تراث شعبي بسيط وعميق في آنٍ معاً.
حفظته الأجيال وتناقلته بوساطة الذاكرة والتثاقف الشفاهي والمادي والممارسة العمليّة اليوميّة، أكثر مما حفظته المدونات والسجلات، ذلك لأنه صادر عن وجدان الشعب، ونابع من ذاته وتقاليده وموروثه، ومتمثل بإنتاجه الفني شكلاً ومضموناً، لا سيما لدى العرب الذين أدخلوا إلى (الفولكلور) ثقافتهم الشفاهيّة والماديّة المتمثلة بالفنون والصناعات والحِرف والمشغولات اليدويّة الكثيرة، والزخارف والرسوم التي زينوا بها منازلهم وعمائرهم وأماكن عملهم والأدوات التي يستخدمونها في حياتهم اليوميّة، لأكثر من وظيفة ومهمة. وهنا لابد من التنويه بأن مصطلح (فن شعبي) لم يكن معروفاً عند العرب، وإنما أدرجت هذه الفنون على هامش العلوم المعترف بها، رغم أنها كانت تُذكر في كتب التاريخ والأدب واللغة. بعد منتصف القرن العشرين، بدأ العالم العربي يتعرف على علم (الفولكلور) بمفهومه المعاصر، غير أن الخلاف ظل قائماً بين العلماء والدارسين، حول المصطلح الجديد نفسه. فهناك من وجد في كلمة (الفولكلور) التعبير الصحيح والمناسب لثقافة الشعب الشفاهيّة والماديّة، وهناك من فضّل استخدام تعبير (التراث الشعبي) أو (المأثور الشعبي) ومنهم الثالث من رأى في اصطلاح (الفنون الشعبيّة) التعبير الأمثل عن هذه الثقافة.
سواقي ونهر بغض النظر عن الخلاف القائم بين الدارسين والعلماء، حول أنسب المصطلحات القادرة على الذهاب بنا مباشرة، إلى الحياة الشعبيّة التي شكّلت ولا تزال تُشكّل، الرحم الحنون الحافظ لموروث الشعوب، والمكان الطبيعي لتجدده وتناسخه واستمراره: حياً ونقياً وفاعلاً وجميلاً وأصيلاً. بغض النظر عن هذا الخلاف، فإن (الفولكلور) أو (التراث الشعبي) أو (المأثور الشعبي) هو الخمائر الحقيقيّة التي ولدت منها حضارات الشعوب والأمم، وبوساطتها استمرت دون انقطاع، وعبرها ومن خلالها، تتجه نحو المستقبل، رغم التحديات الجديدة المحدقة بها، ولعل أبرزها وأخطرها (العولمة) التي تعتبر (الفولكلور) عدوها الأول، والعقبة الكأداء، في طريق انتشارها وسيطرتها، لذلك فهي تتجه إليه مباشرةً، بهدف تذويبه وإلغائه، ليتس نى لها خلق الأنموذج الواحد لكل الشعوب والأمم. |
|