تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


هل نحن في عصر بلا قضايا؟

ملحق ثقافي
29/9/2009
فواز حداد

اليوم، من أكبر الخطايا أن يذهب الحماس بالكاتب إلى الانتصار لقضية فلسطين والدفاع عن هؤلاء الذين يضحون بأجسادهم ويحولونها إلى قنابل بشرية،

حتى أن هناك رعيلاً من المثقفين الليبراليين يصفوون أي عمل يشتبه بأنه يلامس التضحية بـ”ثقافة الموت”، (بالطبع لا يقصد من هذا أي دفاع عن التفجيرات الانتحارية الطائفية في العراق)، على الضد من “ثقافة الحياة” التي تنشد الفرح والمرح والرقص والبهجة. كذلك من قصر النظر أن تأخذ الكاتب الحمية فيؤكد على حقوق العمال والمضطهدين، والحجة جاهزة، مادامت روسيا الوطن الأم للشيوعية العالمية تخلت عن العمال والتحقت بالرأسمالية، فلماذا نتنكب همومهم على عاتقنا؟‏

هذه القضايا باتت تعتبر من القضايا التي فات زمنها، مع أن فلسطين مازالت تعاني من الظلم التاريخي الواقع عليها، أما العمال، فهل يا ترى استوفوا حقوقهم في عصر الرخاء، بينما نشهد أن النتائج السيئة للأزمة المالية وقعت على رؤوسهم، وباتوا يتحملون القسط الأكبر منها، مع أنهم لم يكونوا سبباً لها، ولا طرفاً فيها.‏

القضايا المصيرية، لم تعد مصيرية، بل أصبحت مثل عروض الأزياء تخضع للموضة. نحن في عصر الاستهلاك، والمطلوب مجاراته بالتسوق والمزيد من التسوق، أصبح كل شيء قابلاً للبيع: الأحلام، السعادة، اللذة، النشوة... لكن بمقابل.‏

المعنى، هل نحن في عصر بلا قضايا؟!‏

على العكس تماماً، نشهد وفرة في القضايا العالقة والمؤجلة، الممنوعة والمطموسة والمسكوت عنها، وكلها عاجلة مادام هناك متضررون منها وضحايا من جراء إغفالها والتعتيم عليها. وبالتالي بوسعنا القول ما أكثر القضايا في هذا العالم الظالم والمظلوم.‏

هذا الكلام نقوله لأنه في هذا العالم المتواصل مع بعضه بعضاً، بات من السهل استعارة أجندات الآخرين والعمل عليها سواء منها الحقيقية أو الباطلة، والايمان بها من فرط تداولها في الإعلام العالمي، فغدا من الطبيعي التركيز على حرية الرأي والتعبير والجسد وحقوق المرأة والأقليات والمثليين والسود والبيئة والحيوانات... ليس لأننا حريصون عليها، وإنما لاهتمام جهات دولية بالدعوة إليها، مع أنه من المفروغ منه أن تكون غالبيتها من قضايانا الأساسية، لا قضايانا بالعدوى.‏

إن التحاقنا بالغرب، يتم بشكل مرضي ومتعسف، وكأن الغرب هو الذي يمنح القضايا شرعيتها، ننصرف عنها لأن الغرب انصرف عنها، ونهتم بها لأن الغرب يهتم بها.‏

على هذا النحو مثلاً، لم يعد مثار إكبار قيام الإنسان بالتضحية بنفسه في سبيل قضية نبيلة، بل مثار نكران واستنكار ويجازى عليها بالفتاوى المضادة، وسخرية المثقفين الذين بلغوا سن الرشد متأخرين... لماذا؟ لأن الغرب يرفضها، وله الحق في ذلك، الغرب يتصرف طبقاً لما يلائم مصالحه أو يتعارض معها، والضحية دائماً هي قضايا العدالة، تلك التي لا يجوز التخلي عنها، ولا تخضع للمساومة، إذ لا يمكن المساومة على الكثير من الظلم بالقليل منه، أو الإجحاف في الحقوق، أو القبول بالأمر الواقع. تقاس إنسانية الإنسان بمدى حرصه على الحقيقة بصرف النظر عما تعود عليه من فائدة أو ضرر.‏

وإذا كان هذا الكلام قد قيل من قبل، وأنا أعيده، فلأن القتل اليومي وانتهاك إنسانية البشر واستباحة الأرض، مازال مستمراً. وأيضاً لأن قضايا العدالة، لا تموت بالتقادم، وإنما لتخاذل المطالبين بها. وليس كل قضية خاسرة تعد باطلة.‏

ولنتذكر أن رواية “الحرب والسلام” خرجت من رحم الدفاع عن روسيا إزاء غزو نابليون لها، وأن “صمت البحر” لفيركور كُتبت كفعل مقاومة ضد الاحتلال النازي لفرنسا، ومثلما كتب غسان كنفاني وسحر خليفة وغيرهم رواياتهم دفاعاً عن الأرض الفلسطينية، لا ننسى أن عشرات الروايات أساءت إلى فلسطين أكثر مما أفادتها، وأصابت الناس بالملل من قضية كان الكثيرون يموتون فداء لها.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية