تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الأمير الضليل.. (نحـــــــن) وعلـــــــي الجنـــدي

ثقافة
الأربعاء 30-9-2009م
عبد الكريم الناعم

أربعون يوماً ونيف على وفاة المبدع الكبير علي الجندي وبهذه المناسبة تقيم وزارة الثقافة حفل تأبين للراحل يشارك فيه عدد كبير من أصدقاء وأحباء الشاعر.

وسيتم توزيع كتاب توثيقي بعنوان: علي الجندي الأمير الضليل بودلير العرب. الكتاب من اعداد د. علي القيم معاون وزير الثقافة ويقع في 184 صفحة من القطع الكبير ويقدم شهادات وإضاءات عن حياة الراحل وأصداء الرحيل في الصحافة العربية ومن ثم يقدم مختارات من أعمال الشاعر، نذكر من الشهادات شهادة: نبيل سليمان /علي كنعان/ ديب علي حسن/ شرود الجندي /هاني الخير/ أحمد بوبس /محمد قاسم الخليل/ حسين عبد الكريم/ جميل حسن/ منذر السعدي/ صبحي الحديدي/ شوقي بغدادي.‏

لقد اخترت أن يكون في العنوان(نحن) وليس (أنا) على ما لأنا الكاتب من حضور، لأن (نحن) هذه تشمل جيلاً بكامله هو الجيل الذين اتفق على تسميتهم جيل الستينيات : محمد عمران، ممدوح عدوان، فايز خضور، علي كنعان، كما تشمل قسماً واسعاً ممن جاء بعدنا، ولست بصدد الإحصاء ، فليعذرني من نسيت اسمه، فأنا أتحدث عن الذين جاؤوا إلى دمشق من مدنهم وقراهم، وكانوا على احتكاك ومعرفة بعلي الجندي الذي جاء من بيروت بعد أن بدأ اسمه يلمع.‏

آخر حضور شفهي كان للشاعر الراحل قبل أقل من شهر، وقد كنا ثلاثة شعراء في جلسة على هامش مهرجان رابطة الخريجين الجامعيين بحمص ، وقد أحضره من عزلته ومن غيابه الشاعر العراقي المعروف حميد سعيد عبر ذكريات منتقاة.‏

ذلك آخر استحضار له، أما أولى مقابلاتي وتعرفي على علي الجندي فقد كانت أواخر خمسينيات القرن الماضي، أو بداية الستينيات، وهو مجرد تقدير، فأنا من أضعف خلق الله في تذكر الأرقام، فقد هتف لي أحد الأصدقاء الأدباء الحمامصة، وقال لي بشيء من اللهفة إن علي الجندي يسأل عني، وإنه يريد أن يتعرف إلي، لم أصدق ما سمعت، فقد كنا في بداية الطريق، صحيح أن لي قصائد نشرت في مجلة الآداب، وفي مجلة المعارف اللبنانيتين لكن.. أن يسأل شاعر كعلي الجندي عني، أو عن غيري ، فذلك اتساع في الزرقة.‏

حين دخلت مطعم البيروتي الذي كان يجلس فيه، وكان غير ماهو عليه الآن، كنت أمام شاب جميل، يطفح بالحيوية ، والرجولة، وبعد جلوسي بدقائق خمس كان ذلك الجدار من التهيب قد انهار ، لقد أزاله علي الجندي بعفويته ، وبتدفقه، وبشعبويته التي لا تنسجم مع الأناقة التي كان عليها، في دمشق منذ عام 1963 العام الذي عاد فيه علي الجندي من بيروت كان محوراً ، ومركزاً ، وخبيراً، يفتح لنا الأبواب التي كنا نخشى الدخول فيها .‏

من منا في البداية كان لا يتهيب من دخول مطعم (مكسيم) وبقية السلسلة التي عرفناها فيما بعد؟!!‏

كان دليلاً وخبيراً وزعيم قبيلة من الشعراء الذين يفتنهم الجمال، والتمتع، وما أظن أن ثمة منصباً، أو ( أمارة) تليق بعلي الجندي أكثر من هذا المنصب، لا لعجز فيه، بل لبنية في تكوينه، وهو لايريد أكثر من هذا، ولا يطمح إلى غيره ، فهو كبيرهم الذي علمهم السحر.‏

كان عاصفة من الحيوية ، والحضور، والنشاط، والسهر، وإنفاق مافي الجيب ، والغرق في كتابة الشعر، وفي اقتطاف التفاح.‏

في ذلك الزمن كانت الحروف المرحب بها، والملمعة ، التي يصفق لها الناس تلك التي تستنبت في أراضي الأيديولوجيا، أحد منا لم يكن، في البدايات ، خارج زمن الثورة ، والتقدم ، والشعارات البراقة ، وبقي علي الجندي وحده يغرد خارج السرب ، يكتب عن الحب، عن المرأة، عن الوجود، عن المعاناة الفردية الإنسانية في مواجهة ما هو خارج، ولهذا لم يكن من شعراء المنابر في تلك المرحلة، ولهذا السبب، ربما، لم يقترب منه الدارسون الذين اهتموا بالمضمون الأيديولوجي، بحسب ماكان مطلوباً ، ومسوقاً ، ومعتقداً.‏

علي الجندي عمل في عدد من مواقع الثقافة وظل هو عصياً على كل ما قد يغير من تركيبته المعبرة عنه خير تعبير.‏

علي الجندي أحبه معظم الذين عرفوه، ولا أقول كلهم فقد كان حضوره يثير غيرة الكثيرين ، غير أن أحداً لم ينصفه في الكتابة عنه، لا من هؤلاء ولا من أولئك ، وما كتب عنه شعرياً هو أقل مما يستحقه بكثير.‏

قبل عدد من السنوات لا أذكرها، وأنا في ذكر الأرقام ممسوح التلافيف، كما سبق أن ذكرت، دعي لمهرجان رابطة الخريجين بحمص.‏

حين وقف ليقرأ قصيدة قصيرة كان نطقه يخرج متعثراً، وفي وقفته شيء من الانحناء.‏

يا إلهي أهذا هو حصان البراري الجامع الذي كان يغريه أن يتحدي العاصفة وهي في أوج اندفاعها، وفي قمة جبروتها؟!!‏

بعد سنوات ممسوحة من التلافيف أيضاً كنا في مهرجان المحبة في اللاذقية، وقد طلب الشاعر اللبناني طلال حيدر أن يرى علي الجندي.‏

حين جاء كانت خطواته متقاربة، رخوة، وقد تهدل ذلك الجسد الصلد، يا إلهي ، تذكرت يومها قصيدة الراحل ممدوح عدوان «مت يا أبي» وكان ممدوح حاضراً يحاول أن يستعيد شيئاً من تلك الأزمنة التي خلفها علي الجندي في كل مكان.‏

علي الجندي جاء إلى البحر ، إلى اللاذقية في سنوات حياته الأخيرة، ربما ليكون (غروبه ) فيها، ليقيم موازنة ما، عن غير دراية، بين (ولادته) في السلمية ، إحدى محطات البادية ، والمكان الذي يغيب فيه وراء أفق المشاهدة ، في اتساع أزرق أكبر من البحر.‏

لقد كان علي الجندي مشغولاً بالحياة وانتهاب ما فيها طوال الزمن الذي ساعده على الانتهاب، وكان مثقفاً بكل ما للكلمة من معنى، منتمياً لقضايا الأمة، يجيد الفرنسية ، وقد قام ببعض الترجمات عنها، محباً للمرح وللنكتة، وللغناء الريفي الشرقي، والغناء العراقي الحزين، وكانت حياته قصيدة متصلة، وكانت قصائده حياة طافحة منقولة إلى الورق ، ولذا ربما شغل الناس بطريقة عيشه، وتعامله، ونظرته الوجودية وشاعرية تلك الحياة ، بحسب ماهو ظاهر منها وكان يؤثرها دون أي تفريط بأي شيء له أدنى مساس بالوطن فانبهر الناس بما عاشه، ونسوا كتابات عذاباته ومكابداته ربما لأن حياته لا يقدر على ممارستها ، بتلك الجهرية، إلا واحد كعلي الجندي، أو من كان مثله.‏

إنني وأنا أتابع فيض الكتابات عنه بعد رحيله اتساءل بكثير من الحسرة:‏

«هل نحن كما يقول البعض أمة يحكمها الأموات»؟!‏

هل الذي يموت هو من يجري الاهتمام به؟! ما قيمة هذا الاهتمام حين نكون قد أعرضنا عنه ونسيناه طوال سنوات من حياته، فإذا بنا بعد موته نكتشف الكثير الكثير؟!‏

هل تذكرون نديم محمد وما عاناه في سنواته الأخيرة من مرارة أعتقد أننا حين ننتقل من تقديم المكافآت للأموات ونهيئها للذين هم أحياء ..آنذاك نكون قد وضعنا أسس أول خطوة للخروج من دائرة حكم الموتى، مدركين أن اهتماماً ما في حياة أي أديب يجري كما ينبغي في حياته هو خير عنده، وأنفع له من أن نقيم له تمثالاً يوضع في أبرز موقع من مواقع الثقافة بعد موته.‏

أعتقد أن علي الجندي رغم غيابه السنوات الأخيرة عن المشهد الثقافي بحكم تردي وضعه الصحي.. ظل معروفاً في معظم العواصم العربية، لا بحياته التي كانت قصيدة حتى آخر قافية فيها، بل من خلال شعره أيضاً، وعسى أن تكون لي وقفات حياتية ، مع ذكريات وسهرات وأفكار عشناها..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية