تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مقاعد وسائل النقل.. دفاتر ذكريات... ودردشات صامتة ..فمن المسؤول؟!

مجتمع
الأربعاء 30-9-2009م
منال السماك

ربما ضاقت الجدران رغم رحابتها، فلم تعد تتسع لذكرياتهم ومشاعرهم الفياضة المتأرجحة بين الحب والكره، بين المدح والذم واللوم والعتاب، فلجأ هواة تدوين الذكريات الى مقاعد وسائل النقل العامة،

فدونوا عليها شعارات وحكما وأسماء الأحباب والأصدقاء، وخطوا رسومات ورموزا تطلع مستخدمي هذه المركبات بألوان مختلفة من الرسائل المرسلة بدون ساعي بريد ولا طوابع.‏

قلوب وسهام تخترقها لتقطر دما، وأعين تدمع حزنا، واعترافات بالحب ووعد بالاخلاص للأبد، وتواريخ باليوم والساعة تخليدا لذكرى لقاء وأرقام هواتف تدعو للاتصال...‏

ظاهرة لها دوافعها وأسباب كامنة وراءها، ولمعرفتها استطلعنا آراء بعض من وجهت إليهم أصابع الاتهام بأنهم وراء هذا السلوك..‏

تقليد ومباهاة‏

تقول الطالبة علا فياض-بكلوريا: هذه الظاهرة منتشرة بين أوساط الشباب أكثر من الفتيات، لأن الفتاة تجد حرجا في إخراج القلم والكتابة في السرفيس أو الباص، وإن فعلت يكون ذلك خفية دون أن يراها أحد، أما الشاب فهو أكثر جرأة، وهو نوع من التقليد والمباهاة بالعلاقات الغرامية، وأحيانا يكون «ولدنة وطيش» أما الفتيات فيجدن في مقاعد المدرسة وسيلة لتفريغ ما بدواخلن، وتدوين ذكرياتهن، ليعدن ويتذكرنها بعد سنوات الدراسة».‏

ورغم أنه على قناعة بأنه تصرف غير لائق، فلم يخف طارق شبلي وهو طالب حادي عشر، هوايته في الكتابة على مقاعد الباصات والسرافيس، يقول:لا أعرف ما يدفعني لفعل ذلك، ولكني أمر بأول تجربة عاطفية، ولم أجد سوى هذه الطريقة لأعبر فيها عن مشاعري وأعلنها على الملأ، في حين لا أجرؤ البوح بذلك أمام أهلي، ربما أجد من يسمعني !!‏

للتسلية!!‏

أما غياث عمايري فلا هدف له من هذا السلوك سوى التسلية وقضاء الوقت في طريقه من البيت الى المدرسة وبالعكس، وغالبا ما يشترك مع بعض رفاقه في ذلك، يقول:«لا يهمني ماذا أكتب، فأحيانا ألجأ الى الرسم دون هدف محدد، وتارة أدون بعض الأمثال والحكم ».‏

بينما يرى عامر بسو-طالب جامعي أنه ليس من الضروري أن نعلن على الناس جميعا همومنا ومشكلاتنا، وهذه الكتابات والرسوم لن تخلد الحب، أو تشفي غليلنا من أعدائنا ولن تحل مشكلاتنا أبدا، لا غاية لها سوى تشويه المنظر العام.‏

إساءة واستهتار‏

ولدى سؤال أحد سائقي السرافيس عن الكتابات المدونة على مقاعد سيارته، قال: إنهم مراهقون وطائشون، ولا يدركون ما يفعلون، فهم يريدون التسلية وقضاء الوقت، دون دراية منهم بأنهم يسيئون للمنظر، ويستهترون بممتلكات الغير، وهذا التصرف يعود الى تربيتهم البيتية وأخلاقياتهم، وغالبا ما يلجأ لهذا التصرف طلاب المرحلة الاعدادية والثانوية، وعندما تكثر هذه الكتابات أو أجد كلمات بذيئة ورسوما مسيئة للأدب: أعمد الى مسحها ولكن هناك من يأتي ليعاود الكرة ويملأها من جديد وكأنها دفاتر ذكريات لهم.‏

ترجمة لأحاسيس داخلية‏

مع أو ضد، أين يقف علم الاجتماع من هذه الظاهرة، الدكتور طلال عبد المعطي مصطفى يرى أن هذا الموضوع له علاقة بالمناخ الاجتماعي والثقافي بالمجتمع، وهذه الكلمات والرسومات تعكس الكثير من العناصر الثقافية غير المادية التي تملأ هذا المناخ وتعيش في كيان أعضاء هذا المجتمع ونفوسهم، وهي تعبر عما يجيش بصدور هؤلاء الشباب والمراهقين وتسمى بعلم الاجتماع بالأحاديث الصامتة، هي محاولة للتعبير عن أمور أو مسائل أو مواقف فرض عليهم عدم الحديث أو التعبير عنها، فتترجم هذه الأحاسيس الداخلية بكلمات أو صور وأحيانا ببيت شعر أو نثر أو كلمة أو رمز كالسهم والقلب ، وقد تعني الكثير من المعاني، وأحيانا لا تعني شيئا على الاطلاق سوى اظهار مهارة الرسم أو محاولة لاسماع أصواتهم للآخرين، وقد تكون نوعا من الحوار المتبادل بين أشخاص لا يعرفون بعضهم، كأن يكتب شاب عبارة ما، فترد عليه فتاة دون معرفة مسبقة بينهما.‏

ويضيف د. مصطفى بقوله: هي حالة نفسية باللاوعي ورغبة باثبات الذات والوجود، ولكنها ليست مرضية، ونحن لا نريد أن نشجع هؤلاء على مزيد من التشويه والمضي بهذا السلوك، إن قلنا: إنه في بعض الحالات يبشر خيرا، باعتباره مرحلة انتقالية نحو التعبير بصوت عال ومرتفع في شتى مواقف الحياة بجرأة ودون خوف.‏

لنعزز ثقافة الحوار‏

إنها لغة صامتة يلجأ إليها المراهقون لانعدام امكانية الاعلان عما بداخل الشاب أو الفتاة، وأحيانا يكون اعلان للتمرد والعصيان والرفض لأن المناخ ليس حواريا سواء بالبيت أو المدرسة وحتى الجامعة، والصراحة والشفافية مغيبة ابتداء من الأسرة وحتى المؤسسات التعليمية.‏

ويمكن القول.. هي ليست وسيلة تعبير صحيحة ومشروعة، ومع ذلك فأنا لست ضدها، طالما هي في حدودها المعقولة البعيدة عن التخريب والإيذاء والتكسير أو كتابة عبارات بذيئة، وفي إطار التعبير عن المشاعر والأحاسيس الانسانية.‏

علما أن الطلاب هم الفئة الاكثر تعبيرا ابتداء من المراهقين وحتى الجامعيين، فهم لديهم أشياء كثيرة وجديدة مغايرة لثقافة المجتمع، ولديهم رغبة داخلية جامحة للتعبير عنها علنا.‏

ليست حضارية‏

ويخلص د. مصطفى بالقول :.هي ليست ظاهرة حضارية، ومع ذلك لا يمكن رفضها بالمطلق، إلا بعد تهيئة الظروف المناسبة للتعبير وابداء الرأي دون الخوف من قمع الأهل والمؤسسات التربوية، ونحن كمجتمع ومؤسسات مجتمعية تقع على عاتقنا مسؤولية تشكيل المناخ الاجتماعي والثقافي الذي يتيح للشباب التعبير بصوت مرتفع، وايجاد مناخ ديمقراطي وتعزيز ثقافة الحوار والاهتمام بالشباب وحل مشكلاتهم وتنشئتهم على المصارحة والشفافية، وبذلك ربما نستطيع أن نخرج بهذه الدردشات الصامتة الى حيز الصراحة والعلانية والمواجهة، ربما...‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية