|
آراء أي إن الحياة تتوالد بعضها من بعض، ولكن في تطور مستمر ولا نشعر نحن المخلوقات الضعيفة أن الزمن -ودون أن نحس- يفتك بنا ويتلفنا ثانية بعد ثانية، إننا سريعو العطب ولكننا لا ندرك ذلك، أو بالأحرى إننا نتجاهل ما سوف تؤول بنا الأمور. إننا ضعفاء إزاء القدر. لكن مع أن شبح الفناء يخترق دربنا من طرف إلى طرف فإن للأبدية غاية من وراء وجودنا، فهي تستعملنا لخدمة أغراضها، وتأكيد ذاتها. كلنا نحاول أن نزج أنفسنا بمغامرات طويلة الأمد، ونأخذ على عاتقنا إنجاز مهمات كبيرة تتطلب الوقت الكثير.. إننا نتصرف وكأننا خالدون، ونخطط للبعيد، ونبدأ رحلات لا تنتهي. لكن ما مدى العمر الذي أعطي لنا أن نعيشه. وهل تتسع هذه الفسحة الضيقة المخصصة لنا لتحقيق كل هذه المشاريع الضخمة. والأحلام العريضة. آه. الموت وحده يفضح أمرنا، فهو يعرفنا وحده على حقيقتنا، ويعلم ما هي الأرباح الهائلة التي يجنيها من هذه الأيام القليلة التي يقرضنا إياها بفائدة مرتفعة جداً، وهو يظل ساكتاً لا يطالبنا بهذا الدين، لأنه واثق أننا سنوفيه إياه عاجلاً أم آجلاً، فيضحك في سره كالمرابي الذي هو المستفيد الوحيد من كل صفقة مالية يورط بها زبائنه. نحن ننسى أن الوقت المحدد لنا مؤلف من أيام وساعات ودقائق وثوان. وأننا لا نستطيع أن نعيشه كله معاً. بل نعيشه جزءاً جزءاً. الحصة التي استنفدناها حتى الآن خصمت علينا. والحصة التي لم نستهلكها بعد ليست حالياً في متناول يدنا، ولا يمكننا أن نحيا سوى برهة قصيرة. أنا ياسين رفاعية، بلغت السبعين من العمر، ولا أكاد فعلت شيئاً، كتبت عشر روايات وست مجموعات قصصية وست مجموعات شعرية وكتاب مذكرات، تشردت وسافرت، وكان كل سفري بحثاً عن لقمة العيش... لم أذهب سائحاً، ولم أنم في فنادق فخمة، وأحياناً نمت على كرسي خشبي في حدائق أوروبا، وانتقلت من شقة مفروشة إلى أخرى هرباً من دفع إيجار الأولى لأنني كنت عاجزاً عن دفعه، أغمي عليّ في الطرقات ونقلت إلى مستشفيات من الدرجة العاشرة، وكانت حياتي صعبة وقاهرة بامتياز، خضت مغامرات لا حصر لها، دخلت سجوناً، وقادتني أجهزة المخابرات إلى أقبيتها عدداً من المرات، في تقارير كاذبة كتبها بي أصدقائي وإنني ذات يوم عرفت واحداً من هؤلاء فلم أجرؤ على لومه ومعاتبته لمجرد المعاتبة لأنني خفت أن يكبر كذبه علي فيوردني في المهالك، صرت أخاف الأصدقاء قبل الأعداء، وإن أتيح لي غصباً عني مجالستهم كنت قليل الكلام وأوافق على كل كلمة يقولونها. كنت أشعر بأن أيامي باتت ساعات ودقائق وثواني. وكنت أفك هذه الساعات كما نفك قطعة نقود كبيرة إلى فئات صغيرة. أصبح هذا الوقت الذي أعيشه من تلك الفئات الصغيرة جداً. ولم أستطع أن أغير شيئاً من منوال حياتي. وكنت في كل ليلة أجري حساباتي فأرتاع لكميات الزمن الضخمة التي هدرتها في حياتي، وصرت، عبثاً، أحاول أن أربح بعض الدقائق بأن أستيقظ أبكر مما كنت أستيقظ، وأذهب إلى الجريدة التي أعمل فيها راكضاً، رغم أن صاحبها لا يدفع لي ما اتفقنا عليه حتى بات مرتبي بالنسبة إليه ما يصرفه على فنجان قهوة وقطعة من الكاتو في مقهى فخم، كنت أحلق شعر ذقني كل يوم واختصاراً للوقت صرت أحلق كل ثلاثة أيام وكنت كلما أعدت النظر بميزانيتي أرتاع لكميات الزمن الضخمة التي أهدرتها في حياتي وكنت أهلع من الخسائر الجنونية من أيام حياتي. وكم ندمت وتحسرت على الماضي البعيد، حين لم يكن عمري قد تجزأ بعد، وتمنيت من كل قلبي أن أسترجع عمري القديم كي أعيد النظر بكل ما فعلت. ولكن.. ولكن عبثاً ما كان ينتظرني. وعبثاً ما رحت أبحث عن »بنك للزمان« أستطيع فيه أن أقايض فيه هذه الفئات الصغيرة التي بين يدي بقطع كبيرة، لكنني في هذا العمر الأقل أتعزى عندما تبين لي أن كل الناس يعانون من وطأة الوقت ويفنون بسرعة مثلي، حتى هؤلاء الذين لا يشغلهم هذا الهم إطلاقاً، فإن أيامهم مفتتة إلى ذرات ضئيلة، بيد أن الزمن ليس مجرد تراكم عددي، إنه دورة الطبيعة بأسرها، وميزان الطقس، وتقلبات المناخ إنه حركة الأرض، فما العمل لإيقاف هذه الحركة؟ إنني أزرع صالون بيتي في بيروت جيئة وذهاباً، مستظهراً شعراً لنزار قباني أو محمود درويش في محاولة التقاط قافية تعود دائماً بإيقاع رتيب، أحاول أن ألتقط شيئاً ثابتاً، لعلني أنجو من الدوامة التي تستنفدني وتستهلكني كما تستهلك البشر الآخرين، فأحسدهم، لأنهم يستطيعون تحمّل وضعهم، ولأنهم يروحون ويأتون متململين بصورة طبيعية. إننا إذاً نعيش في خوف دائم، نفتش في الحاضر عن سند نحن البشر بحيث لا نستطيع العثور عليه في الماضي، ومن شيخوختنا بحيث لا نستطيع العثور عليه في المستقبل، من الجدة بحيث لا يجوز لنا البحث عنه في الجديد... الزمان عامل انفصال: بين الطفولة والمراهقة، والشباب والرجولة.. وبالنسبة لي كل مراحل عمري مسافات شاسعة تجعل من الطفل والمراهق والشاب والرجل والكهل الذي كنتهم تباعاً في فترات متباعدة من مساري التاريخي أشخاصاً غرباء عني لا يمتّون إليّ بصلة، هكذا، بت هذه الأيام أنأى وأهجر نفسي دون انقطاع. وأموت أطوار حياتي الواحد بعد الآخر. مخلفاً ورائي الأدوار التي لعبتها في مختلف فصول المسرحية، خالعاً عني الثياب التي ارتديتها في شتى المناسبات، وكأني أقتلع كل مرة جزءاً من كياني وأطرحه جانباً، كل ما يجري لا بد أن يعبر ويزول فيتجرد من الهالة التي كنا نضفيها عليه عندما كان موجوداً، ويفقد معناه. عندئذ نندم لأننا أوليناه انتباهاً. وحدها الأشياء الخالدة تستحق الاهتمام. بينما يمضي الزمن البطيء متضخماً بذاته. مكرراً نفسه برتابة كنكسة مرض طويل... من هنا استحالة ترقب أو توقع حدث ما. لأننا نتصوره بإيقاع سريع جداً. لكن عندما يحصل حقاً، فإنه يتوالى بإيقاعه الطبيعي، وهو في الواقع بطيء للغاية.. المجانين والمساجين أكثر من غيرهم يعانون من وطأته، فزحف الدقائق المتثاقل هو مصدر كل شعور بالضجر، لأننا أشبه بكمان في يد الزمان يعزف بنا ما يشاء من ألحان، وهذا معنى كرره الشعراء بصدد ما نعاني من سأم: »ليس هو الذي تهترئ سترته بل الزمن« وكأنما هذا الزمن الذي أعيشه يشبه ساعة بدون عقارب وبأن الوقت أصبح رسوماً جامدة في صوره، لكن الحدث سرعان ما يستنفد طرافته، فإذا بالغرفة تمتلئ بالوقت من جديد، ويصبح فيها أكثر مما ينبغي. وأكثر مما نستطيع استعماله من ذلك الزمن الذي ننزلق أثناء رحلتنا وعلى غير ارادة منا في هاويته، حيث نفنى، نضمحل كالحلم. ونموت دون أن نستيقظ، ودون أن يتاح لنا التوغل بعيداً، وتجاوز الفسحة الضيقة المرسومة لنا. الدرب قصيرة يباغتنا الموت على منعطفاتها. يقطع علينا سفرتنا، ويخطفنا قبل الأوان، ولا مفر لأحد من هذا القدر المحتوم. لا شيء يدوم حتى الملوك يختفون كما يتوارى أتفه الصعاليك وأحقرهم. |
|