|
الملحق الثقافي الذي جعله يلعب دوراً تسجيلياً في مراحل مختلفة من تاريخ الفن، بدءاً من رسوم إنسان الكهف الذي وثّق من خلالها لمجريات حياته اليوميّة، ومشاهداته خارج كهفه، وحارب ـ حسب اعتقاده ـ من خلالها، أعدائه من الحيوانات المفترسة، مروراً بفنون الحضارات الكبرى كالرافديّة والفرعونيّة والإغريقيّة والرومانيّة، وصولاً إلى عصر النهضة. وعلى الرغم من مزاحمة الاتجاهات الفنيّة الحديثة والمعاصرة للتشخيصيّة، إلا أنها ظلت قائمة، بل لقد عادت إلى حركات الفن التشكيلي العالمي المعاصر بقوة، وبأشكال جديدة، استفادت فيها من اكتشافات الاتجاهات الأخرى. خصوصيّة وتفرد انصبغت التشخيصيّة بالبيئة التي جاءت منها، وبالحضارات التي نمت في كنفها، وبالتالي، تلونت واختلفت صيغها وموضوعاتها. وفق توجهات فنون هذه الحضارات. فمهمتها وشكلها في مرحلة رسوم إنسان الكهوف، اختلفت عن مهمتها وشكلها في الحضارة المصريّة القديمة أو الرافديّة، حيث عبّرت عن الحياة اليوميّة، والأحداث السياسيّة والاجتماعيّة، وانصبغت بالأسطورة في الفنون الهنديّة والصينيّة والمكسيكيّة. أما في المرحلة الكلاسيكيّة، فقد وصلت إلى الكمال في تصوير الشخصيّة الإنسانيّة، لا سيما في النحت الإغريقي الذي اعتمد مقاييس ونسب رياضيّة أطلق عليها «النسب الذهبيّة» في علاقة حجم الرأس إلى الجسم، والتي تأرجحت بين 1 إلى 7 أو 1 إلى 8، ووصلت أحياناً من 1 إلى 9. استمرت هذه الحالة مع الفن الروماني، ووصلت إلى فنون عصر النهضة، لكن في العصور المسيحيّة، فقد تحللت الأيقونة» التصوير المٌكرّس لموضوعات دينيّة تتعلق بالسيد المسيح والسيدة العذراء والقديسين» من هذه النسبة والدقة الواقعيّة، لصالح نزعة رمزيّة تجلت بشكل خاص في الفن البيزنطي، لكن النسبة الذهبيّة والتشخيصيّة، عادت لتظهر مرة أخرى في الفن القوطي. ومع ظهور التيارات الحديثة في الفن، ظهر ما يمكن تسميته «الفن غير التشخيصي» أو ما شاع باصطلاح «الفن التجريدي» الذي لم يكن طارئاً، أو جديداً مئة بالمئة، فقد وُجدت له جذور قديمة تمظهرت في الزخرفة القائمة على تأويل النباتات، وتوظيف الأشكال الهندسيّة المجردة في تكوين شبكة نابذة جاذبة، وخير مثال على ذلك، الرقش العربي الذي عبّر بقوة عن روحانيّة الفن العربي والإسلامي. من خلال صيغ شكليّة جديدة غير تشخيصيّة، هدفت للتعبير عن المطلق، بلغة بصريّة جميلة رفيعة ومبتكرة.
تنوع الصيغ على هذا الأساس، يمكن القول أن التشخيصيّة في الفن التشكيلي، مرت بمراحل تباينت خلالها واقعيتها واختلفت من فن إلى آخر. فقد اعتمد فنانو عصر النهضة الإيطاليّة على القواعد الكلاسيكيّة الإغريقيّة ـ الرومانيّة الشديدة التطابق مع الواقع، والملتزمة بدقة بالنسب التشريحيّة للجسد الإنساني، كما في رسوم ومنحوتات مايكل أنجلو، وليوناردو دافنشي، ورافائيل ... وغيرهم. ومن إيطاليا، انتشر هذا الاتجاه ليعم العالم القديم في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكيّة وبعض الدول الأخرى. أما في المرقنات العربيّة والإسلاميّة، فقد وصل التشخيص فيها إلى حد التبسيط والتوضيح السردي، كما في رسوم الواسطي، بينما وصل إلى حد التعقيد، بأسلوب نمطي في تشخيص الواقع والكائنات الحية، في المنمنمات الفارسيّة، أما في الفن المصري القديم، فقد خضع لجمالية خاصة استمرت عشرات القرون. في الفن الحديث، ورغم المزاحمة الشديدة للتشخيصيّة من قبل الاتجاهات والمذاهب الفنيّة الجديدة، كالتأثيريّة، والانطباعيّة، والتعبيريّة، والسورياليّة، والتكعيبيّة، والتجريديّة، إلا أنها استمرت في الحضور في تجارب الفنانين، بأشكال وصيغ مختلفة، مالت غالبيتها نحو تبسيط وتحوير واختزال الأشكال الواقعيّة، كما لدى بابلو بيكاسو، وفرنسيس بيكون، والتعبيريين الألمان، ووصلت لدى ماتيس وبول كلي إلى حدود التشويه. مثل هذه النزعات، خرجت عن المفهوم العام للتشخيصيّة القائم على إدراك الواقع بذاته، ونقله بدقة وبراعة إلى العمل الفني، مستوعباً النسب التشريحيّة، والمنظور، لتتماهى برؤية جديدة قائمة على التخيل والإسقاط ونزعة تصوير اللا شيء. وبالتدريج، اشتغل العديد من الفنانين التشكيليين المعاصرين، على اتجاهات جديدة، عمدت إلى قطع كل صلة لها بالتشخيصيّة، الأمر الذي أوقع بعضها في التجريد المطلق، وبالتالي بنوع من الفن العدمي العابث الذي هو أقرب إلى اللعب منه إلى الفن الحقيقي. العودة إلى التشخيص بعد أن صال الفنانون التجريديون والطليعيون والمفاهيميون وجالوا، في اجتراح فنون عجيبة، غريبة، غامضة، اتخذت من البشاعة عنواناً رئيساً لها، وتحللت من القواعد والنظم والأسس التي نهضت عليها فنون العالم، شهدت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكيّة والعديد من دول العالم، عودة مظفرة للاتجاهات التشخيصيّة، قادها مجموعة كبيرة من الفنانين الذين عاودوا مد الجسور مع الإرث الفني الضخم الذي أنجزه العمالقة الكبار، مستعيدين إياه بأشكال جديدة، تختلف من دولة إلى أخرى، ومن فنان لآخر أيضاً. ففي أوروبا، ابتعد التشخيصيون الجدد عن الطابع التعليمي الإيضاحي. فالتشخيصيون الألمان، انطلقوا في أساليبهم من الواقعيّة الانتقاديّة القائمة على الموضوعيّة الجديدة والتعبيريّة الاجتماعيّة. أما في أسبانيا، فقد أخذت التشخيصيّة الجديدة طريقها إلى تجارب نخبة من فنانيها، نذكر منهم: دانييل كوينتيرو، وماريا مورينو، وكارفن لافون، وأنتونيو جارسيا. وفي انكلترا، اعتبر الفنان نورمانبيلمي ممثلاً ممتازاً للتشخيصيّة الانكليزيّة المتميزة بالتكوين البنائي، والرسوخ والاستقرار والحيويّة. أما في الولايات المتحدة الأمريكيّة، فقد استرجع بعض فنانيها بقوة، عصر النهضة الإيطاليّة، إنما بصيغ جديدة تتأرجح بين التشخيصيّة المجردة والرسم الإيضاحي التعليمي، كما لدى جاك بيل. أما جريجوري جيليسياي فقد اتسم إنتاجه بالوعي التاريخي والوعي الذاتي، كما قدم الفنانون الأمريكون مدرسة تشخيصيّة جديدة عرفت باصطلاح «البوب آرت» أي الفن الجماهيري، وهو نوع من التشخيصيّة المبالغ في واقعيتها، أو ما يمكن تسميته «الواقعيّة المثاليّة» أو «السحريّة» أو «المتفوقة». أي «السوبر رياليزم». الأمر نفسه، انسحب على الحيوات التشكيليّة العربيّة المعاصرة الجاهزة لتلقي كل جديد يفرزه الفن التشكيلي الغربي، سواء منه التشخيصي أو التجريدي، والأمثلة على ذلك في هذه الحيوات أكثر من أن تُُحصى، ولعل مصر كانت في طليعة الدول العربية التي استقطبت الاتجاه التشخيصي في الفن، حيث اشتغل عليه عدد كبير من الفنانين التشكيليين نذكر منهم: محمود سعيد، أحمد صبري، راغب عياد، محمود ناجي ... وغيرهم. وفي سورية برز في هذا الاتجاه: توفيق طارق، وسعيد تحسين، وعبد الوهاب أبو السعود، ومحمود جلال، وخالد معاذ، ورشاد مصطفى. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، اشتغل على هذا الاتجاه، عدد من الفنانين الرواد نذكر منهم: عبد القادر الريس، عبيد سرور، عبد الرحمن زينل، عبد الله العامري، أحمد عبد الله، جابر الأنصاري، صالح الأستاد، محمد الأستاد ... وغيرهم. أما في التشكيل الكويتي فقد برزت التشخيصيّة لدى: سامي محمد، أيوب حسين، عبد الله القصار، بدر القطامي، محمود الرضوان، حسين المسيب، محمد الدمخي، محمد الشيخ، يوسف خليف، سمر البدر، صفوان الأيوبي، علي حسين، وغيرهم. وفي العراق برز على هذا الصعيد: جواد سليم، شاكر حسن، محمود صبري، فائق حسن، حافظ الدروبي، اسماعيل الشيخلي، اسماعيل فتاح، نوري الراوي، جميل حمودي، ماهود أحمد، سعاد العطار، فيصل لعيبي ... وغيرهم. |
|