|
ثقافة والذي شاده الأبناء فيما بعد واشتغلت عليه الحرفنة الهندسية والمعمارية مئذنة سامقة وقباب سبع متناسقة يطل على التلال والجبال والوديان والمنحدرات والغابات الخضر ومروج الليمون والزيتون.
مدخل فسيح أنيق يقودك إلى مدخل المسجد يميناً يقابله استراحة الزائر وإدارة الخدمة. على محيط الجدران المزركشة علقت لوحات كبيرة من البرونز، نقش عليها بإتقان مقتطفات مختارة بذوق عال من شعره الرائع، تنقل الزائر مع متعة التجول في بستانه الظليل الغارق بالعبق والشذا. وما أن تنتهي من معلّقة حتى تطالعك أخرى بنكهة أحلى حتى تنتهي بك الدورة إلى الجلوس حول الضريح الأنور الذي نحت عليه مجسم للمصحف الشريف المفتوح وصورة الشاعر الكبير بين كتبه ومكتبته. وأشير هنا إلى نية ابنه الدكتور عدنان وضع مكتبة والده الغنية في متناول الجمهور بعد تأمين المكان اللائق وربما كان ذلك جوار المسجد. أسترجع بعض الذكريات ونحن في الذكرى الثالثة عشرة لرحيله لقد كان حامد حسن حالة فريدة في عصره في ظروف قاسية من احتلال العثمانيين قروناً أربعة لبلادنا تلاه الاستعمار الفرنسي وسايكس بيكو والاستقلال وما بعده وصولاً إلى الثامن من آذار. في هذه المراحل واجه حامد حسن المتغيرات بما امتاز به من شاعرية وعبقرية ندر مثيلها شواهدها الذاكرة النشطة والحافظة القوية والقدرة الفائقة على استظهار شعره على المنابر من الذاكرة طيلة حياته معتمداً على امتلاكه ناصية اللغة وتمكنه من العبارة المناسبة للصورة يكيف اللغة ويصوغ من مفرداتها الكلمة النادرة والأبهى ولعل أبلغ ما قيل في هذا الصدد ماجاء على لسان صديقه العلامة الدكتور أحمد عمران الزاوي حيث يقول: في أول مناسبة جمعنا فيها منبر واحد أصغيت إليه بكليتي فأحسست أنني أرى شلالاً من الفكر العبقري يتدفق علينا من الأعالي شعر صيغت معانيه وقوافيه من كنوز الحكمة وبيان قطفت قطوفه من واحات عبقر وموقف خطابي جمع أفضل حالات التوازن والاتزان. وفي جوابه على سؤال لأحد الصحفيين حول إلقاء شعره دون الاستعانة بورق أجاب: (منذ صعودي لأول مرة على المنبر وكان ذلك في زمن مبكر لسني، لم أرد أن أظهر أمام الجمهور أو المستمعين أو المشاهدين وأنا أقرأ ورقة كما يقرؤها الطفل في المدرسة فالشاعر على المنبر يجب أن يعتمد على ذاكرته أكثر مما يعتمد على عينيه). رافقته في تسعينيات القرن الماضي في إحدى زياراته لأحد الشعراء في بانياس وكان معروفاً تداول أحاديث حول الشعر والأدب بادره المضيف: هل تذكر يا أبا سهيل تأبين فلان في صافيتا وكان ذلك في الأربعينيات- وعدد له المشاركين من الشعراء في الحفل. أجابه: بلى، قال بعد الحفل وأثناء جلسة لنا، أجمع المشاركون والحضور على أن قصيدتك كانت الأميز، فهل تتذكر مطلعها؟ فبدأ حامد حسن بقصيدة أنهضت المضيف عن كرسيه وهو يقول: ما شاء الله- ما شاء الله... لقد كانت تلك الأبيات من قصيدة الشاعر المضيف نفسه. - استدعاني باكراً ذات يوم واستكتبني مع دخولي مباشرة قصيدته المعروفة (من وحي التشرينين)- كان قد صاغها واختزنها ليلاً- وطلب إليّ اخراجها طباعة دون اطلاع أحد عليها، وكان ذلك قبل وفاته بعامين وفي اليوم التالي شارك في مكتبة الأسد بمناسبة السادس عشر من تشرين الثاني- صعد المنبر وكعادته بلا ورقة- وبدأ الإلقاء الذي أدهشني وأنا أصغي إليه كيفما يشاء يغير في الصدر أو العجز أو إضافة بيت، أو تأخير بيت وكنت أحفظها بكاملها ولدى المقارنة وجدت التبديل والتغيير المذهل الذي حصل ارتجالاً. حامد حسن شاعر الخيال المجنح والكلمة المموسقة، جدد في موضوعات الشعر وأساليبه ووشى إبداعه بألوان الطبيعة.. وهو ليس شاعراً وكفى، بل ناقد قدّم مجموعة دراسات مهمة في النقد الأدبي وهذا جانب لم يأخذ حقه من الدراسة والاهتمام، سيبقى حامد حسن نغماً قنديلاً أخضر في مسيرة الشعر العربي |
|