|
ملحق ثقافي استولى الروم على مدينة «نصيبين»، وبقيت تحت سلطتهم 65 عاماً، وبعد وفاة «يوليانوس» تولّى الحكم على الروم من بعده «يوبنييانوس» الذي وفر الأمن والسلام لهم على كل شيء. ومن أجل ذلك سلّم نصيبين للفرس ليحكموها مدة مئة وعشرين سنة، ثم يعيدوها إلى أصحابها، فانتهت السنوات في عهد «زينون» ملك الروم، لكن الفرس لم يرضوا بإعادة المدينة، مما أشعل الفتنة.
أمّا ملوك الفرس فكانوا يرسلون سفراءهم ويأخذون الذهب لحاجتهم، وأخذ «فيروز بن يزدجرد» ملك الفرس ذهباً من الروم مرات كثيرة من جراء الحروب الكثيرة بينه وبين الكوشيين، وهم أقوام تركية مغولية، فلما سمع «زينون» ملك الروم باستعداد «فيروز» للحرب، أرسل ذهباً من ماله، وعقد «فيروز» للهونيين معاهدة بألا يجتاز حدودهم للحرب، ثم عاد فنقض المعاهدة وخرج للحرب. وهكذا أبيد جيشه بكامله وتبدّد، وقبض عليه وهو حيّ، ووعد بأن يدفع مقابل خلاص حياته ثلاثين بغلاً محملاً بالدراهم، فلم يستطع تأمين سوى عشرين بغلاً، وقد وضع ابنه «قُباذ» رهينة عندهم ريثما يواتيهم بها. وعندما عاد إلى مملكته فرض ضريبة النفوس والأعناق على المملكة كلها، وأرسل ما تبقى عليه وأنقذ ابنه، ثم جهّز جيشاً وخرج للحرب. عندما أعلنت الحرب وحمي وطيسها بين الجماعتين، فني جيشه كلّه، وقد فتشوا عنه فما وجدوه، وحتى اليوم لا يعرف ما دهاه؟ وتمرّد عليه «القدشيون» وهم قبيلة عربية تسكن قرب «نصيبين» الذين تحت حكمه وأرادوا أن يحتلوا «نصيبين» ويسمّوا ملكاً عليها منهم، وتمرّد عليه «الطموريين» وهم أيضاً قبيلة عربية تقطن قرب «نصيبين» عندما رأوا أنهم لا يجنون منه شيئاً، فكانوا ينزلون من الجبال يبتزون وينبهون ويسلبون القرى المجاورة لهم، والتجار والغرباء وأبناء البلد، ثم يعودون إلى أماكن سكناهم. تربّع على عرش الفرس خلفاً له أخوه «زمشف» وتزوج «قباذ» امرأة من الهونيين، وكان يتباكى أمامه راجياً منه كي يعطيه جيشاً لمساعدته كي يأخذ بالثأر من العظماء بقتلهم. وأعطيت لـه قوّة بحسب طلبه، وحقّق إرادته فقتل العظماء، واستسلم الهونيون والقدشيون عندما سمعوا أنه سيعلن الحرب ضد الروم انضم إليه العرب أيضاً، واجتمعوا معه بفرح عظيم. وحمي وطيس الحرب، وحدثت أورام ودمامل بين سكان المدينة، كانت تورم الوجوه، وتمتلئ قيحاً، كان المنظر مخيفاً، حتى راحات أيديهم وأخمص أقدامهم امتلأت جروحاً وحصفاً، وحدث غلاء عظيم، فكان الشعير يباع بـ 50 متراً، والحنطة بـ 30 متراً في الرّها، وازداد الفسق والفجور والزنا، واشتد مرض الدمامل بين الناس وأصيبت عيون الكثيرين بالأذى والضرر، في المدينة والريف. عزل الحاكم «أنستاس» في نهاية هذه السنة وحلّ محلّه «الكسندروس» حيث أمر بإزالة القمامة من أسواق المدينة، وهدم المصطبات التي بنيت للعمال، ووضع صندوقاً أمام قصره، وفتح فيه فتحة، كتب فوقها: «كل من يود أن يخبر عن أيّ أمر يصعب عليه ذلك علناً، فليكتب وليرم داخل الصندوق دون وجل». وبهذه الطريقة تعرف على أمور كثيرة، كتبها أناس ورموها فيه. وكان يبت في الدعاوى بدون مقابل، فقوي المظلومون ضد ظالميهم، والمنهوبون ضد ناهبيهم، وبني الدهليز الذي عند باب الأقبية وبدأ أيضاً ببناء الحمام إلى جانب مستودع الحبوب. وقد صدر أمر من الملك «أنستاس» بأنه سيتخلّى عن الذهب الذي كان العمال يعطونه مرّة كل أربع سنوات، ولم يكن هذا الأمر يشمل الرّها فحسب بل جميع المدن اللائذة بالسلطنة الرومانية، فسرت المدينة كلّها، ولبس الجميع الملابس البيضاء، وحملوا شموعاً مضيئة ومباخر فيها البخور المعطر، وخرجوا بالتراتيل والتسابيح، وهم يلهجون بالشكر وبالمديح للملك. وفي شهر أيلول حدث زلزال قوي وشديد، وسمع على الأرض صوت عال يأتي من السماء، وقد شعرت المدن والقرى بهذا الصوت القوي، جاءت إلينا أصوات حزينة وأخبار سيئة من الجهات كافة. وفي يوم السبت 23 تشرين الأوّل، اختفى نور الشمس وقرص ضوؤها ولم تظهر لها أشعة، كان شكلها يشبه قرص الفضة، ولم يبق لها ضياء أو أشعة أو بهاء يحجبها عن النظر. بقيت هكذا نحو ثماني ساعات، وهذا كان يشبه الرماد أو الكبريت المنتشر عليها. وفي هذا اليوم حدث شرخ في السور من الجنوب حتى الباب الكبير وتطاير من حجارة المكان إلى مسافة بعيدة كمية لا بأس بها. وفي شهر آذار خرج إلينا الجراد، فأكل وأهلك رأس العين كلها وتل موزل «بين ماردين والرّها» والرّها، وعند الطيران كان امتداد قطره من تخوم آثور حتى البحر المتوسط، واتجه شمالاً نحو تخوم أورطيا، وعاث فساداً، وأهلك وأفنى كل شيء فيها، كنا نرى بأعيننا ما قيل عن بابل كفردوس عدن قبله، وصحراء قاحلة من بعده. وبدأ الناس بالتسول من شدة الجوع، فباعوا حوائجهم بنصف أثمانها، كالبعير والثيران والغنم. كان القمح يباع أربعة مدّين بدينار، والشعير ستة، وصندوق الحمص بخمسمائة زقاً وصندوق الفول بأربعمائة زق، وصندوق العدس بثلاثمائة وستين زقاً، ورطل اللحم بمئة زق، ورطل الدجاج بثلاثمائة زق، والبيضة بأربعين زقاً. وأبناء المدينة كانوا يطوفون في الأسواق، يجمعون أوراق الخضار ملطخة بالقمامة فيأكلونها، وينامون في الأروقة والأسواق، ينوحون ليلاً نهاراً من شدّة الجوع، وضعفت أجسامهم، واغتموا، وكانوا يشبهون أبناء آوى لضعف أجسامهم، اكتظت بهم المدينة وبدؤوا يموتون في الأسواق. واشتد الطاعون وأدركهم الموت وهم نائمون، وكان الأولاد يصرخون في الأسواق، منهم من ماتت أمّه، ومنهم من تركته وهربت حين طلب منها الطعام، فليس لديها ما تقدمه له. وكانت الجثث ملقاة ومنتشرة هنا وهناك، ولم يكن باستطاعة أحد دفنها، فبينما يخرجون الجثث الأولى، كانوا يجدون غيرها، ولم تكن لتسمع في تلك الأيام سوى النواح أو البكاء على الأموات، وكان يموت كثيرون في ساحات المدينة والفنادق، وكانوا يموتون في الطرق أثناء دخولهم المدينة، لقد انتشر وباء الطاعون من أنطاكية حتى نصيبين. ثم جاء النعمان ملك العرب من الجنوب ودخل منازل الحرانيين، وفتك ونهب الجمال وبضائع حرّان كلّها وأسر الناس، ووصل إلى الرّها، واستولى الفرس على سور «آمد» بالسلام، دون أن تفتح الأبواب أو يهدم السور، أبادوا المدينة ونهبوا ممتلكاتها، وسبوا سكانها، عدا الشيوخ وفاقدي البصر والمشوّهين والذين اختفوا، وتركوا هناك حامية من ثلاثة آلاف رجل، ونزل الجميع إلى جبل سنجار. وجرح النعمان، وتورم الجرح الذي في رأسه، وانفتحت رقبته كلّها، فقام وذهب إلى مسكنه، واستمر هذا الألم يومين ثم مات. وفي النهاية أتى «بطرس» إلى المكان الذي كان اليهود يحرسونه، وتجول في المدينة، وأفنى كل من وجده فيها من اليهود، وقد استغرق ذلك منه أياماً، بسبب خيانتهم له وتسليمهم المدينة. وبعد أيام خرج إليه القائد الفارسي، وأعاد لهم جميع الأشياء التي طلبوها، وعقد معهم اتفاقاً، وحقق السلام، ودونوا عهوداً بينهم، وحدّدوا وقتاً بألا يشنّوا حرباً على بعضهم، وفرحت الجيوش وسُرت بالسلام الذي حلّ. يعتبر هذا الكتاب أكمل وأوثق سند تاريخي لتلك الأحداث، ويسبق تاريخ الرّها الشهير بثلاثين سنة. ومؤلفه راهب سرياني من الرّها، خريج الكلية الرهاويّة وأحد أساتذتها مجهول الاسم. وكتب سنة 932 م. نسخته الأصلية القديمة وحيدة، ومحفوظة في خزانة مكتبة الفاتيكان، تحت رقم 162. قام بتصحيح بعض مفرداته، وملأ بعض الفراغات: برهان حنّا إيليا. الكتاب: تاريخ النوائب والحوادث في الرّها وآمد وما بين النهرين كلها الكاتب: راهب سرياني من الرّها، قام بطبعه برهان حنا إيليا الناشر: مطبعة الإحسان، حلب |
|