|
ملحق ثقافي فقد سبقه كلاً من الايرلندي صموئيل بيكيت رائد مسرح العبث، والأفريقي وول سوينكا، وآخرون ممن كانت نتاجاتهم الإبداعية متنوعة، والمسرح يشكل إحدى فروع هذه الإبداعات أمثال طاغور، وجان بول سارتر، وتولستوي، وغيرهم.
لم يكن اختيار الأكاديمية السويدية لبينتر مكان انتقاد، فالرجل له مكانته العالمية المرموقة في عالم المسرح كمؤلف وضع بصمته الخاصة في تاريخ المسرح العالمي، ما أجبر قاموس أكسفورد على إضافة مصطلح البنترية painteresque المنحوت من اسم بينتر، والذي يعني ذلك الفضاء الدرامي الإنساني الخاص، وقد توقفت الأكاديمية السويدية مراراً أمام هذا المصطلح؛ كمن يفخر باكتشافه شيئاً عظيماً واستثنائياً. في التصنيف الأدبي يعتبر هارولد بينتر أحد كتاب اللامعقول أو العبث، وهذه التسمية لم تأت من فراغ، فبينتر كان حريصاً منذ بداياته المبكرة على دمج الواقعي باللاواقعي بشكل عضوي، ومترابط، وإن كان حرصه على بناء كلاسيكي للنص المسرحي لديه يدخله في تصنيف آخر، لكنه في الواقع يبقى تلميذاً لصموئيل بيكيت، إذ يشاركه الإحساس باليأس القاتل الذي يلف الحياة الإنسانية، فشخصياته صبيانية، تثور دائماً دونما سبب، ومستوى التسامح لديها معدوم، تتميز بالقسوة والخوف معاً دون وجود عنصر تهديد يلف حياتها. ولو تناولنا أياً من نصوص بينتر المسرحية لوجدنا دائماً هذا النموذج من الشخصيات غير المتزنة. فمن مسرحية حفلة عيد الميلاد «1958» التي تعد مسرحية نموذجية لإنتاج بينتر بشكل عام، نجد نفس الشخصيات المأزومة التي تتحرك في مسرحيات الحارس، والأيام الخوالي، أو مسرحية الأرض الحرام، نجد أنفسنا دائماً أمام نفس الشخصيات وأزمتها الوجودية، أو التي تتحرك في حيز زماني ومكاني خاص بها، مع التأكيد على واقعية هذه الشخصيات، لكن تصرفاتها غير واقعية البتة، ما يجعل المرء دائماً يتساءل: لماذا لا تقول هذه الشخصيات ما تريد قوله ببساطة؟ ويجعل من حوارها أقرب للحلم منها إلى الواقع؟ ما حدا بالناقد المسرحي البريطاني نيفيل دينيس إلى القول: «إن شخصيات بينتر تكاد تكون عديمة المعنى فكراً وعقلاً».
لكن هذا الرأي الذي وجد الكثير من المؤيدين آنذاك لا يتفق البتة مع مارتن أسلن المعروف بمناصرة كتاب اللامعقول الذي يرى: «أن بينتر وأضرابه يصارعون الواقع المطلق من جهة، ومن جهة أخرى ينتقدون بقسوة عن طريق الهجاء حياة الناس الذين يعيشون في العالم القديم غير مدركين ما فيه من سقم وسخف، وغير واعين لما في حياتهم من تدن وانحطاط». وهذا ما يدفع بهؤلاء الكتاب إلى إبراز اليأس الذي يلف الحياة الإنسانية، ويصلون إلى أبعاد غريبة في مقارعة هذا اليأس كما نجد عند بيكيت مثلاً. ومع ذلك فإننا لو تحدثنا مع هؤلاء الكتاب حديثاً مباشراً لوجدنا أنهم يرفضون مناقشة أي نظريات أو غايات وراء أعمالهم، وسيشيرون إلى أنهم يهتمون بشيء واحد فقط، ولهذا تبريره الكامل، ألا وهو التعبير عن رؤياهم للعالم كأحسن ما يقدرون عليه، وذلك لأنهم كفنانين يشعرون بحافز لا يمكن كبته للقيام بهذا. وعلى هذا الأساس يمكن النظر إلى دراما العبث على أنها نوع من الاختزال الفكري لنمط معقد من التشابه في التناول والطريقة والتقليد، ومن الأسس الفلسفية والفنية المشتركة، سواء كان إدراكها واعياً أو غير واع. وهارولد بينتر الذي وصف بالضمير الذي لا يكف عن اليقظة، نظراً لانشغاله بقضايا سياسية كثيرة، وإن كانت هذه القضايا السياسية لم تجد طريقها مباشرة في أعماله المسرحية، لذلك اتهم بالابتعاد عن السياسة فيما كتبه من مسرحيات وقصائد، لكن الحقيقة أن بينتر غارق في السياسة إلى درجة التماهي مع قضايا كثيرة لعل أبرزها تضامنه مع أكراد تركيا، وما يتعرضون له من اضطهاد سياسي وثقافي وإنساني، ففي العام 1985 رافق الكاتب المسرحي الأمريكي الشهير آرثر ميللر في رحلة إلى تركيا، وفي الحفلة التي أقامتها السفارة الأمريكية على شرف ميللر، وبدل عبارات المجاملة والدبلوماسية ألقى بينتر خطبة عنيفة استعرض فيها طرائق أجهزة الأمن التركية في تعذيب السياسيين، ولم تجد السفارة وسيلة لإسكاته سوى طرده من الحفلة، فكان أن لحق به ميللر تضامناً. ولا ينسى موقفه في إطار حركة الاحتجاج البريطانية ضد الحرب على العراق إذ قال: «لقد قال بوش إننا لن نسمح أن تظل أسوأ أسلحة العالم في أيدي أسوأ قادة العالم، ولقد نطق بالحق، أنظر إلى نفسك في المرآة، لأنك أنت الأسوأ». وفي خطبة لاحقة قال: «إن الولايات المتحدة الأمريكية وحش منفلت من عقاله، والبربرية الأمريكية سوف تدمر العالم ما لم نواجهها بحزم، إن البلد تحكمه ثلة من المجرمين، ومعهم بلير بوصفه السفاح، إن التخطيط لمهاجمة العراق عمل من أعمال الإبادة الجماعية عن سابق تصميم». وهارولد بينتر بالإضافة إلى كونه كاتباً مسرحياً من الطراز الأول، فهو شاعر مهم، إذ أصدر قصائده الأولى في ديوان العام 1991، وفي عام 2005 أصدر ديواناً آخر اقتصر على القصائد السياسية بعنوان «الحرب» war عن دار نشر Faber and Faber في لندن. ورغم أن بينتر مصنف كمخرج مسرحي في المسرح القومي البريطاني، وأخرج العديد من النصوص المسرحية، إلا أنه لم يقدم على إخراج أي نص من مسرحياته، مع أن العديد من أهم مخرجي العالم، والمسرح البريطاني بالخصوص قد تناوبوا على إخراج أعماله، ومنذ السبعينات من القرن الماضي لا تجد ريبورتوار أي مسرح في العالم لا يحتوي على أعمال بينتر المسرحية، ومع أهم مخرجي العالم. والحقيقة أن عالم بينتر المسرحي غني إلى درجة كبيرة، ما يدفع الكثير من المخرجين إلى تبني أعماله وتقديمها باستمرار. لكن والملفت للنظر، وبشكل يثير الاستغراب فعلاً، هو التجاهل العربي بالعموم لأعمال بينتر، مع أن نص حفلة عيد الميلاد الذي كتب في العام 1970 قد قدم في بغداد في العام 1979، وفي العام ذاته ترجم له العراقي محمد الظاهر مسرحية الأزمنة القديمة، والتي ترجمت لاحقاً عن المجلس الأعلى للثقافة في الكويت بعنوان الأيام الخوالي. وعندنا في سوريا اقتصرت عروض أعمال بينتر في المسرح القومي على عمل يتيم وهو مسرحية الحارس في تسعينيات القرن الماضي بتوقيع المخرج عماد عطواني، مع أن العديد من فرق الهواة والمسرح الجامعي قد تناولوا أعمال بينتر في معظم أنحاء الوطن العربي. هذا التجاهل الرسمي لكاتب مسرحي بحجم بينتر، أمر يثير التساؤل، ولا نجد له المبررات، مع هذا الكم الهائل من العروض الهزيلة والمعادة التي تتخمنا بها مسارحنا العربية على امتداد الوطن العربي. والتبرير الذي يبدو مقنعاً إلى حد ما هو الموقف الإيديولوجي، فقد استقبلت أعمال بينتر في السبعينات من القرن الماضي بكثير من التوجس، والهجوم غير المبرر، ومن مواقع أدبية/ سياسية رأت في أعماله وغيره من كتاب العبث مأساة جدية للإنسانية، والمقالة بقلم الناقد العراقي يوسف ثروة في مجلة أقلام، العدد رقم 1 لعام 1979، كتب كما يعتقد أنه نبوءة، يقول: «إن مسرح اللامعقول بصفته شكلاً فنياً استنفد طاقته، ثمة تغيير في الجو، يحدث الآن، يقوم به دراميون جدد، إلا أن هؤلاء لم يتحرروا من القيم التي ورثوها، فالنضال في عالم اليوم بين النور والظلام، بين ما هو سام ومنحط، أي بين المتناقضات، ولذلك فواجب الدرامي اليوم يقتضي أن ينظر إلى المأزق الإنساني بعين لا تغشاها غاشية الضباب». وباعتبار أن سبعينيات القرن الماضي تشابهت وتكاملت ثقافياً إلى حد بعيد رغم اختلاف البلدان، فإن ما رشح منها يكفي ليعطينا صورة قريبة من الواقع الثقافي المهيمن، وحرص مسارحنا دائماً على تقديم عروض ذات أهداف تربوية وسلوكية وأخلاقية، وغيرها، حتى لا تتأثر أخلاقياتنا المعلبة وننحرف عن سواء السبيل. وعسى أن نجد أنفسنا ذات يوم قد كبرنا وتخلصنا من هذه الوصاية المقيتة. في النهاية سواء قبلنا بينتر، أو رفضناه، يبقى واحداً من ألمع كتاب المسرح في القرن العشرين، ولا يعني سوء تلقينا له، أو تجاهله، أننا في موقف صحيح، وليست هذه دعوة لتبني عروض لمسرحيات بينتر، ففي النهاية ريبورتوار المسرح السوري غالباً اجتهاد شخصي، بغض النظر عن صاحب القرار، وموقعه الثقافي أو القيادي، لكن ما يهمنا، أو ما نطمح إليه فعلاً هو وجود مسرح حقيقي، له بصمته وخصوصيته وهويته. |
|