تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


كلام على الكلام « 6 »

معاً على الطريق
الأربعاء 3-8-2016
أنيسة عبود

و...

حلب.. والكلام على حلب كما الكلام على حبيب سافر وترك أوراقه وعطره ولم يودع أحداً ,على اعتبار أنه سيعود قريباً ليسقي أزهاره التي تحرس النافذة.. ويفتح أبوابه للشمس..‏

لكن الغياب طال.. وورد النافذة ذبل ومات. وما رجع ذلك الغائب الذي لم ننس وجهه ولا صوته.. ولم نسمح للريح بان تسرق عطره .. هكذا حلب المسافرة لأعوام .. حلب الجريحة لسنوات.. لم تبارح القلب ولا الذاكرة.. وما نسينا لحظة شوارعها ولا ساحاتها وأسواقها ولا الأبطال الذين استشهدوا على دروبها سواء من الجيش العربي السوري أم من أهلها الشرفاء الذين لم يستسلموا ولم يبادلوا ترابها بنفط العربان ولا بتاج السلطان.‏

والكلام على حلب.. عادت حلب.. انتصرت حلب.‏

وإذ نتكلم عن حلب. لا بد أن نمر بالمتنبي ومجالس سيف الدولة.. لا بد أن نسمع صليل السيوف.. وها صليل السيف الدمشقي من جديد يلمع في سمائها فيكتب الأزرق تاريخها ويرسم الغار مجدها التليد.‏

وها.. حلب التي أعرفها.. شوارع لها رائحة الزعتر والهيل وممرات في الحرف والقلم والأحبة.. أزمنة تتدرج في – التلل – وما أدراك ما التلل – ولماذا سمي بهذا الاسم؟ ولماذا تكثر البوابات.. والأبواب العتيقة التي تخبئ خلفها قصص الفرسان والعشاق والجنيات اللواتي يرقصن على أنغام القدود الحلبية وعلى القصيدة الصوفية.. ويسترحن عند باب القلعة منتظرات الحمداني كي يسرقن حصانه.‏

وحصان الحمداني لا أحد يقدر على مسك لجامه.. ذاك حصان الفارس.. والفارس لم ولن يترجل ها هو في الميدان يلتقط الضوء ويعبئه في صدر الجند.. والجند في بلدي لا ينحنون للعتمة لأنهم أبناء. الأبجدية.. أبناء الضوء والنصر الأكيد..‏

. والكلام على حلب.. كلام عن القلعة.. عن الشهباء الحبيبة.. عن أشجارها وأنهارها وكتابها.. عن لياليها الحالمة وبياض نهاراتها النقية.. وعظمة أهلها وصبر أبطالها.‏

الكلام على حلب كلام عن قمرها الذي رأيته وأنا طفلة فقلت لأمي التي تمسك يدي كي لا أضيع في أزقتها المرصوفة بحجارة التاريخ والإباء. هذا قمر قريتي.. إنه يشبه قمرنا الذي يطل من خلف الجبال وينزل في البحر كي يسهر مع عشتار عند أدراج أوغاريت.. ما كنت أعرف أن لحلب قمرها الفتان، وما كنت أدري أن حلب منذ أول الزمان حلم عصي على السلاطين والطغاة.‏

وفي حلب ضعت.. مشيت في أروقة التاريخ .. بكت عليّ أمي فزارت مقام النبي يحي.. والجامع الكبير وكنيسة السريان وراحت تتضرع كي تلاقيني، وقبل أن تفقد الأمل وجدتني عند أبوابها العتيقة أجلس وأغني أغنيتي القروية لعل قروياً مثلي يسمعني ويأخذني إلى أمي التي بكت حين رأتني.. فاشترت لي مصحفاً كي يحميني من التوهان وثوباً أحمر حملته معي إلى قريتي، فضحكت عليّ بنات الجيران لأني أرتدي ثوب بنات المدينة وقلن البنت نسيت قريتها وخرافها وحليب بقرتها السوداء وساموك بيتها الترابي.. لقد صارت البنت حلبية.‏

هو الكلام على الماضي يولّع الروح، لأني بالفعل صرت حلبية، وصرت أحب حلب كما أحب ّ جبلة، وبعد ذلك صرت حمصية وعشقت ديك الجن وحجارتها السود ثم صرت شامية الهوى والروح وحملت بردى في قلبي وقاسيون على راحة يدي ودرعا خواتم أناملي والسويداء أسورة في معصمي، صرت سورية وصبورة أكثر وحزينة أكثر لأن الجسر المعلق في دير الزور لم يعد معلقاً ولأن مهرجان الرقة غاب في السواد ولأني لا اقدر أن أسافر إلى الحسكة وأقطف قطنها وأزور خابورها وفراتها.. بينما الأصدقاء في حماة يكفكفون دمع نواعيرها.‏

فعنّي أيتها النواعير (عنين الناعورة).. لقد شربت من دم الشهداء الذين رماهم القتلة في نهر العاصي، أما علمت ما جرى؟‏

والذي جرى أفظع من أن يقال وأكثر هولاً من شطحات الخيال.‏

والذي جرى.. حلب تنتصر. والحمداني بباب القلعة يوزع الفرسان.. بينما المتنبي يكمل قصيدته‏

وأنا أبحث عن قمر حلب الذي يشبه قمر قريتي لأقدمه للجيش العربي السوري العظيم .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية