|
عربي ودولي اغتيال الرئيس رفيق الحريري , تشير الى ان الرجل لا يملك أدلة قاطعة بشأن الاتهامات والايحاءات التي ساقها في تقريره والتي اما تسرب او تصنع الكثير منها قبل صدور التقرير بزمن, ما يجعل التطابق لافتا بين الفحوى الرئيسي للتقرير الذي يتهم الجهاز الامني اللبناني - السوري بالوقوف وراء الجريمة, والاتهامات التي رددتها بعض القوى اللبنانية منذ الايام الاولى لعملية الاغتيال. ولا شك أن ما جاء في تقرير السيد ميليس يجب ان تتم دراسته من جانب فريق قانوني وسياسي وجنائي متخصص لكي يتسنى الوقوف باطمئنان على نقاط القوة ونقاط الضعف في هذا التقرير ومناقشة كل منها بشكل جدي ومفصل . غير ان ثمة ملاحظات سريعة يمكن ان يتوقف عندها أي متابع ولعل في مقدمتها ما يلي : - الخلاصة الرئيسية للتقرير مبنية على الاستنتاج والظن والتحليل وليس على وقائع ثابتة. ويرى التقرير أن عملية بحجم ما جرى في 14 شباط وما تطلبته من كمية مواد متفجرة كبيرة , ومن قدرة على رصد حركة السيد الحريري واتصالاته الهاتفية ما كانت لتتم دون علم جهازي الامن اللبناني والسوري . ومن الواضح ان هذا مجرد استنتاج وتحليل اعتبره التقرير منطقيا, لكنه لا يرتقي ابدا الى مستوى الدليل القطعي والذي تقام على أساسه قرينة الاتهام والادانة, حيث من المتعارف عليه قضائيا ان الادانة التي تصدر عن قاضي الحكم يمكن أن تستند الى ظنون وقناعات القاضي , أما بالنسبة لقاضي التحقيق وهو حال السيد ميليس, فلا يعتد الا بما يقدم إليه من وثائق وبراهين قاطعة. والغريب ان افتراض السيد ميليس لم يلاحظ حوادث اكثر تعقيدا جرت في بلدان أكثر تطورا من سورية دون ان تتمكن أجهزة المخابرات في هذه البلدان من اكتشافها مثل احداث 11 ايلول وتفجيرات لندن ومدريد. - لم يشغل كاتب التقرير وهو السيد ميليس نفسه بالاجابة على سؤال منطقي لا بد انه تبادر الى أذهان كثير من الناس وهو هل يعقل ان جهة ما تخطط لاغتيال شخصية مرموقة مثل الشهيد الحريري يمكن أن تشرك بحسب هذا التقرير, عشرات وربما مئات الاشخاص في مثل هذه العملية. هل هذا من فعل مخابرات محترفة كما يحاول ان يقول التقرير بينما تقضي ابسط قواعد العمل المخابراتي بتضييق حلقة المنفذين الى اضيق الحدود وبحيث لا يتجاوزوا أبداً اصابع اليد الواحدة. وهل تحتاج الجهة المخططة الى جهد الاجهزة الامنية الاربعة في لبنان وليس جهازا واحدا او جهازين مثلا, علما ان ثمة خلافات معروفة بين قادة هذه الاجهزة . بل ان هذه الاجهزة الاربعة , وهي عمليا جميع اجهزة الامن في لبنان, لم تكن كافية من اجل التحضير للعملية فجرت الاستعانة بأشخاص وقوى اخرى مثل جماعة الاحباش والجبهة الشعبية-القيادة العامة, وشخصيات من طرابلس بما فيها الرئيس كرامي والنائب ناصر قنديل ..الخ ان تجنيد كل هذه القوى يوحي بأن ما يتم التخطيط له ليس عملية اغتيال لشخص واحد يفترض انها سرية , بل شن حرب او على الاقل القيام بانقلاب عسكري في لبنان . - الطريقة التي تعامل بها التحقيق مع روايات الشهود المختلفين بدت خاضعة للمزاج السياسي المعادي لسورية والذي تردده علنا بعض القوى اللبنانية المعروفة . وعندما يورد التقرير رواية الشهود السوريين عن اجتماع الشهيد الحريري مع السيد رئيس الجمهورية في 26 اب 2004 يقول انها جاءت متشابهة ومن مصدر واحد ويشكك في صدقيتها باعتبار انها تتعارض مع روايات شهود اخرين يعتبر انهم يشكلون مصادر مختلفة, رغم أنهم في الحقيقة هم مصدر واحد ايضا , بمعنى انهم فريق سياسي واحد وهو الفريق المعادي لسورية في لبنان , فكيف يفترض السيد ميليس ان الشهود السوريين نسقوا شهاداتهم مع بعضهم البعض بينما يستبعد هذا الاحتمال بالنسبة لشهود الرواية الاخرى, وكذا الحال بالنسبة لتشويه جوهر رسالة السيد فاروق الشرع وزير الخارجية. - وهذا الموقف المسبق الذي يبدو ان السيد ميليس قد تشبع به من خلال تقربه من بعض القوى اللبنانية المناهضة لسورية( حتى لا نقول تسييس التحقيق وهي الكلمة التي يكرهها السيد ميليس ) , كان له أثره ايضا على طريقة تفسيره لمحادثة يقول التقرير انها جرت بين رئيس جهاز الامن والاستطلاع في القوات العربية السورية التي كانت عاملة في لبنان ومسؤول لبناني لم يتم الافصاح عن هويته حيث يعبر الاثنان عن ضجرهم من السيد الحريري . ومثل هذه المحاورة لا يمكن ان تعتبر دليلا على تخطيط أو نية لاغتيال السيد الحريري لأن هذا النمط من الكلام بل وأقسى منه , كان ولا يزال, لغة سائدة في لبنان وحتى في وسائل الاعلام. - وهذا الاستخدام الانتقائي لبعض الروايات والأقاويل والوقائع حول الدور الذي كانت تقوم به سورية أو بعض ممثليها في لبنان بملابساته المختلفة, يقابله تجاهل واضح من السيد ميليس لحقائق اخرى منها ان ثمة نقاط اتفاق كثيرة كانت تجمع المرحوم الحريري مع الموقف السوري مثل سلاح المقاومة والموقف من اسرائيل وتلازم المسارين والتمسك بعروبة لبنان وغير ذلك, في حين ان الذين يذرفون الدموع اليوم على الحريري كانوا يختلفون معه في كل شيء تقريبا , وهذه امور تجاهلها التقرير ولم يلتفت إلى ما كان من خلاف بين الحريري ودمشق بشأن التمديد للرئيس لحود وبنى على هذا الخلاف خلاصات اتهامية غير منطقية. - اعتمد التقرير بشكل رئيسي على شاهد مجهول بدا أن دوره سوبرماني وملتبس. فهذا الشاهد المجهول يورده التقريرعلى انه محل ثقة كبيرة لدى أجهزة الامن السورية التي تسمح له بالتجول في مواقعها وتطلعه على اسرارها وهو موجود بقدرة قادر في كل مكان يمكنه من ان يكون شاهدا رئيسيا فيما بعد على تورط المخابرات السورية. نجده في المعسكر الذي جهزت فيه سيارة الميتسوبيشي التي استخدمت في التفجير حيث شاهدها هناك في الايام الثلاثة السابقة لعملية الاغتيال واستطاع ان يعرف يوم وساعة دخولها من سورية الى لبنان والضابط الذي كان يقودها, وانها غادرت القاعدة السورية في لبنان صباح يوم الاغتيال ( وكأن كان لديه حدس بأنه سيكون لهذه السيارة شأن ما حتى يراقب تحركاتها بهذه الدقة ) وبعد ان يتفقد هذا الشاهد منطقة سان جورج قبل يوم من وقوع التفجير برفقة ضابط سوري نجده في المكان نفسه في اليوم التالي قبل دقائق من التفجير ليتصل به ضابط امن سوري ويطلب منه مغادرة المكان فورا حرصا على حياته!. الاماكن )الحساسة) التي يكون فيها هذا الشاهد باستمرار والمسؤولون الأمنيون الذين يطلعونه على اسرار عملهم توحي وكأنه ليس مجرد صديق لضابط ما كما يمكن ان نفترض بل أكثر من ذلك بكثير علما انه في عمل المخابرات لا يستطيع ضابط الامن ان يفشي اسرار عمله حتى لضابط اخر زميل له خاصة عندما يتعلق الامر بمسألة حساسة جدا كما هو هذه الحالة. - اما الشاهد الاخر وهو محمد زهير الصديق, ورغم اكتشاف كذبه امام لجنة التحقيق نفسها التي أمرت باعتقاله , فان تقرير اللجنة يعتمد في بعض المواضع على اقوال الصديق الذي تحول الى مجرد سائق عند ضابط مخابرات سوري بعد ان كان مدير مكتبه, خاصة ما يتصل بالاعداد لعملية الاغتيال وايضا سيارة الميتسوبيشي التي يزعم الصديق بدوره أنه رآها تجهز بالمتفجرات في معسكر بالزبداني , دون ان يقدم التقرير اي تفسير يجعل الجهة المزعومة التي تجهز السيارة تسمح لكل شخص بالاطلاع على فعلتها. - هناك اكثر من عشرة نقاط هامة تركها التقرير مفتوحة وطلب من الجهات اللبنانية المختصة متابعتها بسبب عدم قدرة لجنة التحقيق على التوصل الى الحقيقة بشأنها ما يجعل التقرير يعاني ثغرات كبيرة ولا يصلح لأن يكون اساسا لتوجيه اتهامات ذات صدقية بحق اي جهة . - رغم ان التقرير ترك مجالا ضيقا لأن يكون طرفا ثالثا وراء عملية الاغتيال, الا ان اللجنة لم تبذل اي جهد للتحري عن هوية هذه الجهة, وحصر اهتمامه في اتجاه واحد تصوب عليه منذ البداية قوى معروفة لبنانية ودولية. والواقع انه يمكن تسجيل المزيد من الملاحظات المشابهة خاصة ما يتصل بمراقبة هواتف المرحوم الحريري في لبنان وهي مسألة يتخذ التقرير منها دليلا على تبييت نية جرمية في حين ان قضية التنصت على هواتف المسؤولين في لبنان كانت مثارة على نطاق واسع وهي لا تخص الحريري وحده بل الكثير من المسؤولين اللبنانيين. والملاحظة التي لا تخطئها العين هي ان المتهمين جميعا هم سورية وحلفاؤها في لبنان. وربما ان استثناء حزب الله يتصل بحسابات سياسية ايضا كي لا تفتضح حقيقة هذا الاستهداف السياسي. وعلى اية حال, فانه لا يجب ابدا الاستهانة بهذا التقرير وينبغي ان يتم التعامل معه بحذر وتعقل لأنه شئنا ام ابينا صار حقيقة واقعة ولا ينفع في المحافل الدولية سوى دفع الحجج والبراهين التي تدحض ما جاء في التقرير من معطيات غير مؤكدة وغير مقنعة . ولا شك ان مسارعة الرئيس الاميركي جورج بوش ووزيرة خارجيته السيدة رايس الى الدعوة لاجتماع طارئ لمجلس الامن لمناقشة هذا التقرير المقلق بحسب تعبير رايس مع التلويح بفرض عقوبات على سورية, يثبت قطعا أن القوى الكبرى التي تتربص بسورية لن تدع هذا التقرير يمر دون ان تبذل كل ما بوسعها من اجل استثماره في خدمة أجندتها السياسية تجاه سورية سواء ما يتصل بلبنان أم غيره من شؤون المنطقة , لأن هذه القوى لا يهمها من التقرير الظني وغير المكتمل وغير النهائي,الا بوصفه وسيلة اخرى للضغط والابتزاز ضد سورية دون ان تنتظر حتى النتائج النهائية لتحقيقات اللجنة التي طلبت تمديد عملها الى نهاية العام الجاري . |
|