تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


التشكيل السوري هم الحداثة وقلق التأصيل

ملحق ثقافي
2018/2/13
د. محمود شاهين

كيفيّة التوفيق بين التراث والمعاصرة، سجال مازال قائماً في كافة الحيوات التشكيلية العربية، بل وفي كافة الحيوات الثقافية، لأن هم المواءمة بين التراث والمعاصرة، هو هم عام طاول كافة ألوان الثقافة العربية المعاصرة،

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

ومنها الثقافة البصرية المتمثلة بالفنون التشكيلية والسينما والتلفاز والمسرح وغيرها، ولازال الشغل الشاغل لغالبية العاملين في حقولها.‏‏‏

ما يسجل للحياة التشكيلية السورية المعاصرة، استقبالها لكافة التيارات والاتجاهات التي أفرزتها الحياة التشكيلية العالمية، ثم هضمها وتمثلها لكل ما هو متزن وجاد وعميق وحقيقي فيها، وتالياً لفظها للغث والطارئ والشاذ والآني والعابث والمريض الذي طفح على جلد الفن العالمي المعاصر، خلال النصف الأول من القرن الماضي، غير أن الذين أوجدوه، سرعان ما قاموا باستبعاده ولفظه، بعد أن وصل إلى طريق مسدود، واستنفد بهلوانياته وصرعاته الخاوية البائسة والمريضة.‏‏‏

الحياة التشكيلية السورية، لم تتأثر حتى تاريخه بفنون الصرعات القائمة على التجريد العابث الضائع والمضيع والتي أخذت أكثر من مسمى أو مصطلح، منها: الدادائية، والتجريدية، والطليعية، وما بعد الطليعية، والمفاهيمية، والتركيبية... وغيرها، وذلك لأنها محصنة ومصانة، بوعي والتزام الفنان التشكيلي السوري، وجديته في البحث والتطور الهادئ، المتزن، المفيد، والمكرس للثقافة الإنسانية الرفيعة القادرة على أن تبقى وتعيش وتستمر، أما الهواجس والإشكالات الأخرى، التي عاشتها وتعيشها، الحياة التشكيلية السورية المعاصرة، فهي لا تنسحب عليها فقط، وإنما تطول كافة الحيوات التشكيلية العالمية: في الشرق الأدنى وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، خاصة بعد أن شعر الفنان التشكيلي في هذه الدول، بالخطر الداهم الذي يحمله تيار العولمة إلى ثقافته الوطنية، وموروثه القومي، ووجوده بكامله.‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

هذا التململ الذي يعيشه الفنان التشكيلي السوري المعاصر، مظهر صحي وصحيح، يؤكد وعيه الشديد، وصدق انتمائه لأرضه وشعبه وأمته، وتالياً إخلاصه لفنه وأدوات تعبيره، ووضوح رؤيته ورؤاه، لما يجري حوله، ما يجعلنا مطمئنين لمستقبل الفنون التشكيلية السورية المعاصرة التي تحاول جاهدة أن تكون ابنة عصرها، وابنة الأرض التي جاءت منها في آنٍ معاً.‏‏‏

لقد أدرك المعنيون بالمنجز التشكيلي السوري، وفي وقت مبكر، أهمية الفنون التشكيلية ودورها الرئيس في عكس حضارة سورية القديمة والجديدة، لا سيما وأن هذه الفنون المقروءة والواضحة والقادرة على الوصول إلى كل الناس، على اختلاف أجناسهم ولغاتهم. كما تنبهوا إلى أهمية الأعمال التي تسكن بين الناس، في الشوارع والساحات والحدائق ومداخل المدن وعلى واجهات الأبنية، كالأعمال النحتية النصبية واللوحات الجدارية، فهي أول ما يطالع الزائر لوطننا، ويجعل منها عناوين بارزة لتقدمه وما يكتنز عليه من موروث حضاري ضارب في تربة الحضارة الإنسانية الرفيعة، فقدموا لها كل دعم ورعاية وتشجيع. كما وفروا للفنان سبل تسويق عمله الفني ونقله إلى الساحات الفنيّة العربيّة والعالميّة، وهم جادون الآن، بتوفير المزيد من المؤسسات الأكاديميّة المعنيّة بتدريب وتأهيل المواهب الفنيّة الشابة والواعدة.‏‏‏

التشكيل السوري الشاب‏‏‏

إن نظرة متأنيّة على النتاج الفني التشكيلي السوري الشاب المتنوع الصيغ والتقانات، نجد أنه لا يختلف كثيراً، عما هو سائد في الحركات التشكيلية العالميّة كافة، ما يؤكد انفتاح المؤسسات التعليميّة الأكاديميّة السوريّة على عصرها، وانفتاح الفنان التشكيلي السوري الشاب هو الأخر، على ما يحدث حوله، خارج الأكاديميات، وهذا أمر متوفر له، بوجود وسائل الاتصال البصري من تلفاز وإنترنيت وصحـافة مقروءة وكتب ومعارض.. وغيرها، وحتى داخل الأكاديميات تُترك لطالب الفن حرية التعبير، بعد تزويده بالمعارف الأساسيّة والضروريّة ليختار بعدها، الصيغة والتقنية التي يجد نفسه فيها أكثر من غيرها، ولعل هذا التنوع الغني واللافت في نتاجات الفنانين التشكيلين السوريين الشباب، خير دليل على ذلك، فقد تبنى الفنانون السوريون الشباب الاتجاهات والأساليب الفنية السائدة في الفن العالمي، بدءاً من الواقعيّة وانتهاءً بالتجريدية، واشتغلوا على تقاناتها كافةً، كما مارسوا جميع أنواع الفن التشكيلي.‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

رغم سيطرة التيارات الحديثة القائمة على إعادة صياغة الشكل المشخص واختزاله وتلخيصه، إلا أن الشكل الواقعي المفهوم، والموضوع الواضح والمقروء، ظلا حاضرين في كافة نتاجات الفنانين التشكيليين السوريين الشباب. وظلت نزعة البحث والتجريب والرغبة بالتمايز أو الاستقلالية الأسلوبية، هي الغالبة على هذه النتاجات.‏‏‏

من جانب آخر، ورغم اعتماد غالبية الفنانين، المفردات التشكيليّة العالميّة، والموضوع الإنساني الشامل، إلا أن ملامح البيئة السوريّة ظلت موجودة وحاضرة فيه، سواء بشكلها المباشر الصريح، أو من خلال الرموز والإشارات المستعارة من التاريخ السوري أو عبر الألوان المعجونة بضوء الأرض السوريّة وتدرجاتها.‏‏‏

والحقيقة، شَكّل الإنسان بحالاته الوجدانية المختلفة المحور الأساس في أعمال التشكيليين السوريين الشباب، ما يدل على تحسس هذا الفنان لمشاكل مجتمعه، وجديته في تناول الهم الوطني والقومي والإنساني.‏‏‏

بالمقابل، غابت عن غالبية هذه النتاجات، الاتجاهات العابثة والممعنة في الذاتية أو تلك التي يُطلق عليها التركيبية والطليعيّة وما بعد الطليعيّة التي برزت في الفنون الغربية أواسط القرن العشرين. إلا أنه، رغم محافظة الفنان التشكيلي السوري الشاب على وسائل التعبير التقليديّة، حاول التحديث فيها، لتتماشى مع عصره، وتلبي طموحاته، وهو كما تدل نتاجاته، يمتلك القابلية الأكيدة، والشهية المفتوحة، على تقبل كل جديد يحدث على هذا الصعيد، لكنه لا يأخذ من هذا الجديد، إلا ما يتوافق مع ذاته أولاً، ومع خصوصية مجتمعه ثانياً، ومع عصره ثالثاً، يُضاف إلى ذلك حرص هذا الفنان على الاحتفاظ بإمكانية التواصل مع القطاع العريض من الناس، رغم وجود صعوبات كثيرة تحد من نجاح عملية التواصل هذه، أولها وأهمها، جِدة الفنون التشكيلية في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، وسطوة الأدب «وخاصة الشعر» على الذائقة العربيّة، فالعرب أمة الشعر كما يقال، ومع ذلك، بدأت العين العربيّة عموماً، والسوريّة خصوصاً، تأنس وتطرب وتتعود على اللغة التشكيليّة الحديثة،‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

بما في ذلك اللغة التشكيليّة الشابة الممعنة بالحداثة والصعبة حتى على المتلقي في الدول الغربية التي جاءت منها بشكلها الحالي، وصيغتها الواقفة في برزخ التشخيص والتجريد، والوضوح والغموض، والجديّة والعبث، والموهبة واللاموهبة، والأصيل والمزيف، والبحث الجاد والاستعراض المبني على مركبات النقص وإثبات الذات، بأي شكل من الأشكال، والفن بأشكاله كافة، صار أبرز هذه الوسائل والأشكال، وأكثرها إغراءً وجذباً، للباحثين عن ترميم ذواتهم، وتعويض مركبات النقص لديهم، خصوصاً وأن ميادين الفن، جميلة، ناعمة، نظيفة، مبهرة، وواسعة بحيث يضيع فيها المبدعون الأصيلون والدخلاء... لكن إلى حين!!‏‏‏

حالة التحصين الذاتي، التي يمارسها الفنان التشكيلي السوري الشاب، على نفسه وعلى نتاجه الفني، تتعرض هذه الأيام، وبقوة، إلى جملة من التحديات والضغوط، التي تُمارس عليه وعلى فنه، بأكثر من شكل وصيغة، وعبر العديد من القنوات داخلياً وخارجياً، تهدف جميعها، إلى الزج به، في الحِراك الثقافي العولمي، ومن ثم تدجينه ليصبح نسخة طبق الأصل، عما هو سائد، في الحيوات التشكيلية العالمية، أو ما يعمل العولميون على أن يسود ويتعمم، بأشكال مختلفة، من بينها القنوات الإعلاميّة التي لم يعد خافياً على أحد، مدى قوة سلطتها وفاعليتها، بعد تطور تقاناتها المذهل، والمراكز الثقافية الأجنبية، ومعاهد وكليات الفنون الأجنبية المتنامية الحضور والانتشار، في بلدان العالم الثالث، والتظاهرات الفنية وورش العمل الغربية الحاملة لأكثر من مسمى، التي لا تغيب إلا لتحضر، في حياتنا الثقافيّة العربيّة المعاصرة، وما يحمله فنانونا الشباب واليافعون وحتى المخضرمون، من زياراتهم المتكررة إلى الدول الغربيّة، بهدف الدراسة، أو إقامة المعارض، أو المشاركة في فعالية ما، أو الاطلاع على تيارات واتجاهات الفن «الطازجة» التي لا تزال تفرزها وبنشاط لافت، ماكينات العولمة الثقافيّة.‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

هذه العوامل مجتمعة، جعلت لكل فنان شاب في حيواتنا التشكيليّة العربيّة قريناً في الغرب، يقلده وينسج على منواله، لا سيما منهم الذين يشتغلون على الفنون المتطرفة في تجريديتها وغموضها وذاتيتها وفوضاها، بدءاً من فنون الطليعة وما بعدها، وانتهاءً بالفنون المركبة، و»الفيديو آرت» ... الخ.‏‏‏

لا تزال عملية عولمة الفن التشكيلي السوري الشاب، تلاقي مقاومة وصدوداً وعزوفاً، من قبل غالبية الفنانين التشكيليين السوريين الشباب، وهو ما يعكسه بجلاء، واقع هذا الفن الذي ما زال مُحصناً ضد التيارات العابثة الضائعة والمضيعة، إذ لا تزال هذه الاتجاهات تعيش على الهامش، وتشكو من نفور غالبية التشكيليين الشباب والمتلقين منها. مع ذلك، فإن همة المعولمين عالية ومستمرة في المحاولة. بل وتزداد شراسة وقوةً، يوماً بعد يوم، وبالمقابل، يزداد الطرف الآخر ممانعة وصموداً، رغم الاختراقات العديدة التي تحدث هنا أو هناك، وهي ممانعة وصمود ذاتي وغير منظم. أي لا تساهم فيه المؤسسات والمنظمات المعنية بالثقافة، وإنما هي ردود فعل تلقائية، تصدر عن الفنان وعن المتلقي في آنٍ معاً، بعيداً عن أي نوع من التوجيه أو الإرشاد أو حتى الإيحاء.‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية