تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ســـــــورية الجميلــــــــة..رسائل الحب الستيني (92)

ثقافة
الثلاثاء 25-8-2009
أسعد عبود

رغم الآلام التي مازالت تنبعث من فكه، والدماء النازفة لم تجف بعد، وضجيج الرأس المستمر منذ جاءته تلك اللكمة وتعرف على مقدمة الموت، فغاب لزمن لا يستطيع أن يحدده،

ثم استيقظ ليبصق من فمه اثنين من أسنانه سيتأخر الزمن قبل أن يستر مكانهما.‏

رغم ذلك كله شعر بدفء الحياة إذ رآه يجلس على كرسيه خلف الطاولة.. ابتسم جرحه ولحسن حظه أن صديقه، قريبه «وليف الصبا» لم يره بهذا الشكل المزري لأنه كان ينشغل أو يتشاغل عنه بأوراق في ملف.. لكن.. وقفته طالت وليس في الغرفة التي أدخلوه إليها إلا الكرسي الذي يجلس عليه سليم.. حرّك أجفانه صعوداً وهبوطاً سريعاً ليجلي المشهد.. إنه هو دون ريب..‏

< هذا أنا أخي سليم.. أستاذ سليم.. هذا أنا أخوك حسن..‏

- من أنت؟!‏

< إنه أنا.. أنا يا سليم.. لقد ضربوني, شوهوا وجهي, لكنني أقسم لك أنني أنا...‏

- من؟!‏

< قلت لك حسن..‏

- أي حسن؟!‏

< أنا حسن وقد نفذت المهمة التي طلبتها منّي.. انظر ماذا فعلوا بي. لقد كشفوني..‏

- لا أعرف من انت.. قل لي كل شيء عنك بسرعة وغادر..‏

< ما الذي لا تعرفه يا سليم..؟! بيتي.. أمي.. أختي.. أبي.. ما الذي لا تعرفه.. عشرة عمر نحن.. و..‏

عند «الواو» صرخ به سليم اذهب دون عودة.. ستنتهي إن رأيتك مرة أخرى..‏

يقول حسن:‏

أردت أن أعود به إلى أيامنا الماضية.. وإلى اندفاعي في خدمته كي ينقذني مما أنا به.. لكن.. لم يسمعني أحسسته خائفاً.. لا أدري من ماذا.. بصراحة.. أنا لم أقل.. ماذا أقول؟! هو يعرف كل شيء..‏

ويقول سليم:‏

لا أعرفه ولا أعرف عنه شيئاً إلا وجهه القبيح وفجوات أسنانه الكريهة.. لا أريد أن أعرف.. أريد أن أنساه هو وأهله وتلك الأيام الذليلة.. يجب أن يعرف أين أنا وأين هو.. ليذهب بلا عودة.. لا أريد أن أتذكره...‏

قال العسلي:‏

< ما زلت أحب زهرة.. هجرتني وتزوجت غيري وتركتني للبراري صياداً لا يعرف ما يصطاد لكن أحبها..‏

- لأنك غبي..‏

< لا يا أبا ميهوب.. بل لأنني ذكي..‏

- ما شاء الله وكان..‏

< اسمع يا أبا ميهوب.. زهرة كان يمكن أن تعاديني وتناكدني وتحاول إفساد حياتي لو لم تكن بنت أصل.. لو كان غيرها لفعل..‏

- لماذا؟! أنت لم تؤذها في حياتك.. بل ما زلت تبحث عنها وهي عنك وببيتها مشغولة.. ألم تنقذها يوم سقطت من الحافة في الحرش؟!‏

< أولاد الأصل فقط الذين لا يسعون للنسيان..‏

- تنسى ماذا؟!‏

< ينسون يداً امتدت إليهم..‏

- لكنك مددت يدك ولم ترجعها.. كيف ستنساك؟!‏

< لم تعد بحاجتي يا أبا ميهوب.. ومع ذلك ما زالت تحبني..‏

- تحبك.. لو أحبتك يوماً لما وصلتما إلى هنا..‏

يقسم أبو ميهوب أن زهرة عبرت صراحة عن أمنيتها ألا يعود العسلي يوم غرّب ببارودته في وادي «قري» لملاقاة الوحوش.. لكن.. لا شهود على ما يقوله..‏

قالت علا:‏

< الماضي مضى يا علاء.. لا أستطيع أن أمشي إلى الوراء..‏

- هل تخافين الماضي..‏

< علاء.. المسألة ليست خوفاً فقط.. بل هذا مضى..‏

- تحبينه..؟‏

< هذا مستحيل يا علاء.. الحياة تقوم على ماض مضى ومستقبل قادم ولنا اللحظة..‏

- أخيراً آمنتِ باللحظة..‏

< ليس كي أقف عندها.. فهي لا تقف..‏

أخرجتُ الرسالة مرة أخرى وقرأتها.. تقول:‏

(لقد أقامت «سهيلة» جلسة خاصة للنميمة والشتيمة وكنت موضوعها.. وتمثل فيها أبطال يعرفونك ولا يعرفونك، يكرهونك ولا يكرهونك.. وشاع الخبر.. والناس كلهم يرددون... إنك تستحق ذلك، فأنت الذي أدخلت الأفعى إلى حديقتك).‏

طويت الورقة وندهت أريد أن أنسى.. فلماذا لا تنسى هي.. أتراها تريد النسيان ولا تدركه.. هل تقاتل بي الماضي..‏

حسن اعترف بتفوق سليم.. والعسلي تقزمت أيامه أمام زهرة.. وعلا تريد أن تمضي إلى المجهول القادم على خط يتوازى مع خط علاء.. وأبو ميهوب التزم سياسة «الدوخ» .. من يدري لعله أيضاً يريد أن يهرب من الماضي؟!‏

أخرجت الرسالة.. مرة أخرى لم استطع إكمال قراءتها.. مزقتها.. أنا أيضاً أهرب من ذاك الماضي.. أخافه.. عندما سألوا أبا ميهوب: هل تخاف من الفأرة؟! قال: أنا لا أقرف من شيء..‏

اعترف أنني استنجدت بعينيك..‏

واعترف أن الحبل الصغير الرفيع الذي رميته لي كافياً لانتشالي.. فأنا منذ عرفتك غدوت خفيفاً.. بل دون وزن، أدور حولك.. فراشة حول الضوء..‏

وأعترف أن في يديك لمسة تنسيني قماءة السحالي فلا أعود أخافها..‏

وأعترف أن لك عيني سنونو وفم عروسة بحر.. وقلب يمامة..‏

كل المقومات متوفرة لأنشغل بحبكِ عن العالم..‏

لنمض.. لن نعود إلى الوراء.. كي لا يفوتنا موسم الفلفل البري.. لكن الكستناء تزهر في كل عام وكذا الحور يورق.. فنتجدد.. وفينا يتجدد الماضي. a-abboud@scs-net.org

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية