|
كتب وجون شتاينبك وسواهم ممن أعادوا بأدبهم المتنوع النظرة الفاحصة لتطور الأدب، ولاسيما في حقل القصة، في أميركا وللقول بالعصر الذهبي للقصة في القرن العشرين، بل إن محقّبي تلك التجارب الماتعة، قد وقفوا أمام ذلك النوع الخاص بالقصة الأميركية، الذي يحيل على مواد جديدة «مشبعة بحقائق الحياة» التي خبرها الكتاب جيداً، ليعاينوا الصراع من أجل الصدق بالمعنى الفني في قصص اعتبرت الأفضل- ربما - قياساً، للثقافة الأوروبية المتجانسة. لكن فوكنر الذي برع في وصف عوامل الجنوب، ليضفي عليها رؤيته كراوٍ، وربما (حدية متراكمة)..وبالمعنى التقني تواتر العقدة القصصية أو الروائية، كان فوكنر قد نقل حل العقدة في رواية غروب الشمس ذلك المساء، إلى رائعته الخاصة الصخب والعنف ، التي أضيفت إلى أفضل ماكتبه من أمثال (ابسالوم.. ابسالوم، وضوء في آب، و بينما أنا أموت).. وغيرها، ولعل خصوبة إنتاجه وما تلامح فيه من معادلات القدر، وفكرة الموت ستعزز لدى متلقيه الإحساس بالطابع الفلسفي المكوّن لقصصه، فضلاً عن تضمينه الواعي للأساطير والتاريخ، ولاسيما الميثولوجيات الإغريقية، كما في أعماله القصصية التي جمعها دون أن تستقل واحدة منها على الأقل استقلالاً كافياً، مايعني انفتاح قصصه على رؤيته التي تقوم على مقاربة حكم القدر الذي يوشك أن يتم.. وهكذا فإن موسيقا سوداء، على مستوى ما انتخب فوكنر نفسه من قصص متقاربة ومستأنفة، ستأتي مثالاً على ما أضفاه فوكنر على عالمه الجنوبي الصغير، بوقائعه من متخيل يوازي نزعته الفطرية للشعر، رغم قناعته أنه «شاعر فاشل» لنراه شديد الاحتفاء بالمكان «الأرض الوسطى»، «الأرض الذهبية» وبتقاليد الحياة الريفية ومفارقاتها، لكنه بالمقابل يذهب إلى ثيمات الصيد والسياحة والرحلة، في قصص مثل: «المسيترال ريح الشمال، وطلاق في نابولي، ووش» التي جعلها جزءاً من رواية ابسالوم، كما جدتي ميلارد جزءاً من رواية، ويكاد يلج مناخات التحليل النفسي الفرويدي «البروش» وفي ماوراء ينضد تأملاته الفلسفية والوجودية ليستحضر الحقبة الذهبية للفكر الحر التي امتدت في أميركا من بداية السبعينيات من القرن التاسع عشر وحتى نهايته، مكثفة في خلاصة تقول: «إننا لانملك أجوبة حول الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى». وباستثناء القصص التي رفضت من قبل ناشرين مثل موسيقا سوداء وصيد ثعلبة ومحطة بنسلفانيا، وكانت هناك ملكة، والتي أعاد صياغتها، متصلة أو منفصلة عن رواياته، ليضمّنها مفاهيمه ولاسيما مفهوم الصراع بين الجنوب والشمال أو الصراع بين الفرد ونفسه، فإنه يضعنا في قصص أخرى أمام مايفسر مجاز شغفه الذي يتجاوز الحدود المألوفة، ويفصح عن هاجسه الشعري المتنامي، أو ولوجه عالم الكتاب والمثقفين، بل إن شخصية الكاتب بنيت على صديقه شيروود أندرسن، لتحاكي نفسه كشاعر فاشل يسمى في قصته «فنان في المنزل» بجون بلير الذي يزور (روجرهاوز) كاتب الإعلانات في نيويورك، ليصبح كاتباً روائياً يشتري منزلا في فرجينيا، ويحاط بالضيوف من الفنانين والشعراء، أي أن فوكنر يضع الروائي في مقابل الشاعر، «إنه شاعر، لم نستضف شاعراً في هذا البيت منذ وقت طويل» إنه يملك الموهبة.. لم يكتب سوى قصيدة واحدة مايعني تالياً أن فوكنر ينكشف لديه إحساسه بالشعر، لكن ذروة هذا الإحساس سنجدها في قصته «كاركسون» التي تتطيرإلى قصيدة نثر عالية وربما كما يقول فوكنر، بسبب جفاف الحياة الجنوبية، فإن كل جنوبي يضطرإلى اللجوء إلى خياله الخاص إلى «كاركسون» الخاصة به. كاركسون ، هي مدينة قروسطية في جنوب غرب فرنسا، استلهمها فوكنر عنواناً للقصة وهي كذلك من قصيدة لغوستاف نادو «كرمز للهدف الذي لايبلغه المرء وللرغبة المحبطة» بموازاة مديح الفروسية والفرسان، ومديح «مهر أصفر تشع عيناه كالبرق الأزرق ويسمو عرفه كلسان اللهب نرتقي هضبة نقفز منها إلى سماء العالم العالية» هكذا يفتتح فوكنر قصته، بتركيزه على هيكل المهر العظمي وليس جسده، مستبطناً روحه، ولعله أراد أن يذهب إلى فلسفته الخاصة عن البعث والحياة مقابل وصفه للموت كثيمة إضافية يغلّفها بجدليته الأثيرة عن ثنائية الموت- الحياة على إيقاع الحرب العالمية الأولى، أو الحرب الأهلية الأميركية، ليكتب حكاية البشر المحكومة بالفناء، لكنه يعود ليتماهى مع ذاته الشاعرة «أحب أن أنجز شيئاً» «أعرف أن نهاية الحياة هي الاضطجاع في سكون».. في حواريته مع «الهيكل العظمي» يكرّر أنه يريد أن ينجز شيئاً جريئاً ومأساوياً، جواد وفارس يمضيان عاصفين، يتأمل الظلمة والوجه المأساوي للأرض أمه، ما الذي عناه فوكنر- اذن- وهو يستحضرشاباً خلافاً لقصته موسيقا السوداء وبطلها عجوز في الثمانين من عمره، في قصتين كتبتا في عام واحد 1926 ترى هل وضع الشاب- بكل استيهاماته- في صراع محيطه؟! إنه فوكنر في كنائية شغفه لينتقل من الواقعية في موسيقا سوداء إلى ضرب من الفانتازيا، «السير يقطع الفرس إلى نصفين في أعلى كاهله، ومع ذلك يستمر بالعدو وبضراوة إيقاعية لاتكل»، يتحدث فوكنر عن تجدده الخاص، وهكذا ينسج أحلامه وأفكاره، نومه ويقظته رؤيا لروحه التي لاتبلغها الديدان أو الحرارة. إلى أن يلتقي كما بطل موسيقا سوداء بفرد ينتصر في صراعه مع الحياة، عندما يختار (لدمدجلستن) حظه وسط عوالم خرافية، مشبعة بالحكايات القديمة والأساطير القديمة أيضاً ليتساءل ما الاسم بالنسبة إلى رجل قد انتهى وبات شيئاً خارج ماهو مرسوم ومقدر للبشر الفانين،و لاشك أن حفر فوكنر في طبقات التاريخ سيضاعف تأويلنا لقصصه، ليس من حيث اللعب مع القدر فحسب، بل لحضوره كشاعر بامتياز وليس كروائي فقط، والأدل تكتيكه القصصي ليقول ما يعرفه وبطرائق تشي بمن يصوغ أسئلة، لاينتظر جوابها في قصص مليئة بالحركة والقلق، والدهشة، وخصوبة سرد ينشئ بقدر محسوب كوميديته الاجتماعية، في مقابل واقع لم يكن سوى مصدر متاعب له كما قصصه بالذات، لينهض بالجنوب «كوطن متخيل» أقرب إلى يوتوبيا مشتهاة، تختصّ فوكنر وحده أحمد علي هلال الكتاب: موسيقا سوداء وقصص أخرى - تأليف وليام فوكنر - ترجمة سامر أبو هواش - الطبعة الأولى 2009 - الناشر دار الآداب للنشر والتوزيع بيروت- لبنان- دار كلمة أبو ظبي في 550 صفحة |
|