|
آراء وهي بلدة جميلة تحيط بها بساتين البرتقال، وواحات النخيل، ومساحات شاسعة من الخضرة وعيون ماء لا حصر لها، وكان مبتغاي هناك زيارة الشاعر المجدد والكاتب الثائر أبي القاسم الشابي، وهو على فراش المرض حيث كان القلب منه يعاني سكراته الأخيرة.. لم أستطع وقتها أن أمكث طويلاً عنده، لكنني اكتفيت بمواساته وتخفيف آلامه وتشجيعه، بعد أن لمحت الحزن يطل من عينيه أسراباً، أسراباً. وبعد أن رأيت أجفانه مثقلة بعبرات الأسى، أنشد يقول وهو يتذكر والده الذي رحل عن الدنيا منذ مدة غير بعيدة: يا موت قد مزقت صدري وقصمت بالأرزاء ظهري وفجعتني فيمن أحب ومن إليه أبث سري يا موت نفسي ملت الدنيا فهل لم يأت دوري بكيت لحال الشاعر.. لكنني سرعان ما واريت دمعاتي براحتي. تماسكت مناشدة إياه الصبر: «هون عليك يا شاعري.. فأنت من لا يثنيك ضعف، ولا تهدك قوة.. ألست من بث في نفوس الناس التفاؤل، وشحذ عندهم العزيمة بشعر ما زال مدرسة لنا على مر العصور: ومن لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوها واندثر ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر أليس هذا الكلام هو قمة التمرد والصلابة والعنفوان؟ ابتسم أبو القاسم الشابي، ارتسم على وجهه شبح إشراقة، استعاد بعضاً من حيوية، وبعضاً من أمل، بينما أنا أتابع تقليب أوراق ذاكرته، وأقرأ شعراً له يقول فيه: وأعود للدنيا بقلب خافق للحب والأفراح والألحان حين رأيت بارقة الإشراق بادية على ملامح الشاعر، ولمحت تحسناً ملحوظاً وأتاه فجأة، ابتهجت وتشجعت لأن أتلو له القصيدة تلو القصيدة حتى وصلت إلى رحاب قصيدة بعينها «صلوات في معبد الحب» التي يخاطب فيها حبيبته، فيقول فيها: كلما أبصرتك عيناي تمشين بخطو موقع كالنشيد خفق القلب كالحياة ورف الزهر في حقل عمري المجرود وانتشت روحي الكئيبة بالحب وغنت كالبلبل الغريد انسحبت من صومعته وأنا أحمل في خافقي صورة زاخرة لشاعر ودع الحياة وهو في السادسة والعشرين من عمره عام 1934، مخلفاً لنا قصائد وجدانية لاتنسى، ونماذج من نثره الذي لا يقل جمالاً عن شعره الغني، كالذي قاله في مقطوعته النثرية «أغنية الألم»: «ما أمرك أيها الألم.. وما أعذبك!.. أيتها المرارة التي أترعت أودية الحياة بأمواج الدموع، وملأت آفاق الوجود بآيات النفوس الدامية، أيتها اليد الرهيبة الهائلة التي حطمت على شفاه القلوب كؤوس الأحلام، وأراقت رحيق النفوس بكهف الظلام..». |
|