|
آراء فقلْ لمنْ يدّعي علماً ومعرفةً حفظتَ شيئاً وغابتْ عنك أشياءُ أولئك المثقّفون كانوا يعمدون إلى إظهار رطانتهم عندما يتناولون موضوعاً ما ، وكأنهم بهذه الرطانة يريدون أن يقدّموا للآخرين أدلّة دامغة أنهم بلغوا من الثقافة الغاية التي لا تُرام ؛ لذلك تسمعهم يتشدّقون بكلمات مثل ( ديالكتيك) أو ( كلاس) أو ( لوجيك) ، ويظنّ من يستمع إليهم أنّ الضاد قد أمستْ لغة خاوية على عروشها ، أو أنها بلغتْ حدّاً من الفقر المدقع جعلها عاجزة عن نقل هذه الكلمات إلى العربية ليفهمها الآخرون ، وربّما سرى الشكّ قليلاً أو كثيراً في نفوسنا فهرعنا إلى القاموس مفتّشين عن كلمات تؤدّي ذلك المعنى ، وأفرخ رَوعُنا عندما وجدنا كلمة ( الجدل) و(الحوار) وهما معنى كلمة ( ديالوج) ذات الأصل اللاتينيّ، وعادتْ إلينا سكينتنا عندما وجدْنا كلمة ( طبقة) وهي تفسّر كلمة ( كلاس) ، ثمّ زالتْ الشكوك مولّيةً إلى غير رجعة عندما وجدنا كلمة ( منطق) المشتقّة من الفعل الثلاثيّ ( نطق) وهي تفسّر كلمة ( لوجيك) ذات الأصل اليونانيّ فترحّمنا على (أرسطو ) و( الخليل بن أحمد الفراهيديّ) ودعونا لهما بالمغفرة والسُّقيا. عادتْ صورة أولئك الذين يدّعون الثقافة بليّ ألسنتهم ببعض الكلمات الأجنبيّة ، لتقرع الذاكرة قرعاً غير رفيق ، عندما خضعنا مكرهين لا أبطالاً لمحاضرة مملِّةٍ ألقاها علينا رجلٌ قدّم نفسه على أنه من حماة القانون الذين لا تغمض لهم عين حرصاً على رؤيته كائناً حيّاً يحظى بالاحترام والمهابة من قبل أفراد المجتمع صغيرهم وكبيرهم، جاهلهم ومتعلّمهم. أمّا سبب التكرّم بإلقاء المحاضرة فهو تقدّمنا إليه برجاءٍ حارٍّ لكي لا يستعرض عضلاته المفتولة أمامنا لأننا سلّمنا بأنها مفتولة ولم نمارِ في ذلك لا مراءً ظاهراً ولاباطناً فكلّ ما قد طلبناه كان التماساً بإعادة حقٍّ سلِبَ منّا، وما إن لمس نبرة الرجاء في حديثنا حتّى أخذته العزّة بالإثم وراح منذراً متوعّداً بأنه سيطبّق علينا القانون بحذافيره وبتفاصيله المتناهية في صغرها ، ولم تنفع معه شفاعة الشافعين ولا وساطة المتوسّطين فقد ركب الغرور رأسه ركوباً عجيباً. ثمّ سرعان ما عاد إلى جادّة الصّواب عندما تبيّن له أنّ شجرتنا ليست يابسة الأغصان ولا مبتورة الجذور ، وأنّ بوسعنا نحن المعتدَى عليهم الاتّصال بمن يعيد لنا الحقّ كاملاً دون نقصان. لقد أيقظت الحادثة ألماً كان غافياً دون أن يقدم أحد على إيقاظه وإزعاجنا ، وأعادتْ إلى الخاطر صوراً كانت الذاكرة قد استراحتْ من إلمامها بها من حين إلى حينٍ أمداً لابأس به من الزمن. أعادت الحادثة مشهد أولئك الذين يظنّون القانون عصا غليظةً ينهالون بها على الآخرين ضرباً إلى أن تتورّم جنوبهم ؛ في حين كان القانون ومازال دواءً نتناوله في التوقيت المناسب وبالجرعة المناسبة لنعيد الأمور إلى نصابها الصحيح. انظرْ مثلاً إلى ذلك الأب الذي يستاء عندما يقصّر ابنه في دروسه ؛ إنّه يعمد إلى توبيخه وربّما عاقبه عقاباً يهدف من خلاله إلى حثّ ابنه على العودة إلى الكتاب لأنّ العلم يضمن له المستقبل المشرق الزاهر ، لكنّ العقاب لا يعني بحالٍ من الأحوال إقدام الأب مثلاً على بتر أصابع ولده أو جدع أنفه أو صلم أذنيه ، وإلاّ كان مشفى الأمراض العقليّة المكان الملائم لاستضافه مثل هذا الأب المتوحِّش !. القانون محطّ تقديرنا واحترامنا بلا أدنى ريبٍ ، لكنْ حبّذا لو استوعب القائمون على تطبيقه ما فيه من جلالٍ وجمال ليطبّقوه على نحوٍ سليمٍ يكون كفيلاً بجعل الناس يلتفّون من حوله مؤمنين بضرورة الالتزام به ، بينما يلعب أولئك الذين يجهلون كيفيّة استخدام القانون بالصورة الصحيحة دوراً واضحاً في جعل الناس ينصرفون عنه ويفرّون منه فرار السليم من الأجرب. |
|