|
معاً على الطريق يتهيأ لي أحياناً ولكثرة الدماء التي أريقت فوق أراضينا الطاهرة أن جدلية الحرب والسلام منغرسة في أعمق أعماق التراب السوري وأنها معجونة بكل حفنة منه وأنها باتت في كروموزمات الشعب السوري, وعليه فإنه لأمر طبيعي أن يحتل عيد الشهداء هذا الموقع البارز بين أعيادنا الوطنية كرديف وشقيق لعيد الجلاء. احتلت دمشق مكانة استثنائية إبان حكم العثمانيين فهي<< شام شريف>> التي ينطلق منها المحمل الشامي باتجاه الأراضي المقدسة والذي كان يمثل رمز السلطة الدينية للإمبراطورية العثمانية على العرب والمسلمين, لكن بعد نشوء جمعية الاتحاد والترقي وبدء عمليات التتريك التي قادها أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا الذي كان حاكماً عسكرياً لبلاد الشام حل الشؤم على هذه البلاد وصار قدر الشاميين أن يقاتلوا في جبهات الأناضول و الروملي وعلى أسوار شنق قلعة.. فشاعت أغاني الوداع الحزينة مثل.. على أوف مشعل ديني مشعلاني مع السلامة يا أغلى الخلاني. وبعد إعداد جمال باشا لحرب الترعة ضد الجيش البريطاني المتمركز في قناة السويس عام 1916 والتي عرفت بالسفربرلك عاشت بلاد الشام أقسى أيامها حيث مات مئات الآلاف قتلاً وجوعاً وقد توجت تلك المرحلة السوداء بنصب المشانق عام 1916 في ساحة الشهداء (المرجة) في دمشق وساحة الشهداء في بيروت والتي تأرجحت على حبالها أجسام خيرة الوطنيين الأحرار. وفي الوقت الذي كانت فيه دمشق-قلب العروبة النابض- تعد العدة للقيام بالثورة ضد العثمانيين كانت تجري عملية طبخ معاهدة سايكس- بيكو على نار هادئة لاقتسام بلاد الشام والعراق بين الحليفين الاستعماريين بريطانيا وفرنسا, واللذين ما انفكا يتربصان بنا وببلادنا الدوائر منذ ذلك الوقت وحتى صدور القرار الأممي 1559 وتوابعه انتهاء باستصدار القرار 1757 القاضي بإنشاء المحكمة الدولية تحت الفصل السابع, والذي سيقيم المنطقة برمتها ولن يقعدها عبر إعادتها للمربع الأول للاستعمار تحت ذرائع مفبركة. شوق سورية للتحرر, والانعتاق والاستقلال لم يتجسد على أرض الواقع إلا في فترة قصيرة لا تتعدى بضعة أشهر, فلقد توج الشريف فيصل بن الحسين ملكاً دستورياً على سورية بتاريخ 8/3/1920 وغادرها إبان معركة ميسلون بتاريخ 24/7/1920 وكانت سورية في تلك الفترة القصيرة البلد العربي الوحيد الناجز الاستقلال والذي يمتلك المقومات الكاملة للدولة المستقلة من دستور وعلم وجيش ومؤسسات مختلفة. كانت النيات الاستعمارية سافرة في مؤتمر الصلح الذي انعقد عام 1919 في قصر فرساي في باريس, فلقد تنكر البريطانيون والفرنسيون للدور البارز الذي لعبته الثورة العربية الكبرى في انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وقرروا استعمار بلاد الشام والعراق, وأرسلت فرنسا جيوشها وفرضت شروطها الجائرة المتعسفة على سورية فهب البطل الشهيد يوسف العظمة وقاد معركة غير متكافئة في ميسلون, وخسر السوريون المعركة عسكرياً, لكنهم ربحوها تاريخياً, ومنذ تلك الحقبة تحديداً تأسست جدلية الحرب والسلام في سورية, بمعنى ألا يكون السلام إلا شاملاً وعادلاً وغير منقوص وقائماً على الندية, ومنذ وقفة العز التي وقفها يوسف العظمة تأسس ما أطلق عليه مفهوم الاهاب السوري الممانع. يتأجج اليوم الحديث حول الحرب والسلام وتكثر الاشاعات والاقاويل والتسريبات حول صيف ساخن بين سورية والكيان الصهيوني وحول استعدادات سورية لخوض الحرب وحول مناورات عسكرية يقوم بها جيش الكيان الصهيوني تشتمل احتلال قرية سورية. ويكثر الحديث أيضا عن استعداد الكيان الصهيوني للعودة إلى طاولة المفاوضات وعن مباحثات سرية وأشياء يجري ترتيبها تحت الطاولة عن طريق شبه مباشر أو عبر وسطاء, وهذا في مجموعه كلام في الفراغ. إن تصريحات إيهود أولمرت الأخيرة الطازجة حول استعداده لإعادة الجولان إلى سورية لقاء تخليها عن إيران وحزب الله وحماس تكشف مدى تخبط الكيان الصهيوني, فبصرف النظر عن كون أولمرت أضعف رئيس وزراء مر في تاريخ الكيان الصهيوني حيث لا تزيد شعبيته عن 3%, وبصرف النظر عن أن تحقيق لجنة فينوغراد قد مرغ جبينه بالتراب, وعلى الأخص بعد الاستقالات المتتابعة للجنرالات, فإن أحداً في الكيان الصهيوني لم يقرأ جدلية الحرب والسلام بتؤدة وإمعان وعمق بل كانوا جميعاً مسكونين بالصلف والغرور. كان خليقاً بأولمرت أن يقدم موقفاً صريحاً وواضحاً من مبادرة السلام العربية التي جرى إخراجها من الثلاجة بدل الحديث عن صفقات هشة ومتهتكة, وكان عليه أن يعلم أن سورية لا يمكن أن تتعامل إلا من ضمن منظور السلام الشامل والعادل للمنطقة وعلى رأسها استعادة الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني الشقيق. وقبل الدخول في لب الموضوع أقول إن ثمة مجموعة مما كان يعتبر نوعاً من الثوابت قد تغير, فمقولة الجيش الذي لا يقهر تبخرت بعد الهزيمة المجلجلة للكيان الصهيوني والانتصار المؤزر للمقاومة اللبنانية في تموز الماضي, والحديث عن التفوق العسكري الاستراتيجي للكيان هشمته عملية دخول الصواريخ كعنصر حاسم ضمن توازن الرعب, بقدرتها على الوصول إلى أعمق أعماق الكيان, أما مقولة لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سورية فقد تزعزعت أركانها بدخول إيران كطرف حاسم في أي حرب محتملة, ناهيك عن تحول الصراع العربي- الإسرائيلي إلى صراع إسلامي تساهم فيه قوى شعبية عربية وإسلامية. أما لب الموضوع وجوهره فيتلخص بأننا على عتبة ولاية رئاسية ثانية للرئيس بشار الأسد والتي ستمتد حتى عام 2014 والتي سيتغير فيها مجموعة من قادة العالم والتي سيشهد فيها الكيان الصهيوني من ضمن وضعه المتأزم جملة من التغييرات, إن على مستوى القادة أو على مستوى الأحزاب أو القوى السياسية الفاعلة. ما يهمنا الآن التعرف الهادىء والمتوالي والمتراكم على رؤية صاحب القرار الأول لجدلية الحرب والسلام في سورية, فمع أنه يبقى صاحب القرار إلا أنه من المستحيل الخوض في غمار جدلية الحرب والسلام من دون شكل من أشكال الإجماع أو الأكثرية الشعبية, فما من عاقل يمكن أن يسعى إلى الحرب, لكن إن فرضت علينا فلا بد من أن نقف موقف رجل واحد, رغم خلافاتنا واختلافاتنا, وأن نتحمل جميعاً تبعاتها. لا أريد أن أدخل شخصياً في متاهات أو في مهرجانات إعلامية, فلقد استقر رأيي على أن أقوم بقراءة هادئة لجدلية الحرب والسلام في فكر الرئيس بشار الأسد. وبعد دراسة قرابة أربعمائة ألف كلمة من أدبيات سيادته تبين لي أنه يجنح للسلام أكثر بكثير مما يجنح للحرب ففي حين وردت عنده كلمة (سلام) 1050 مرة بعد حذف عبارة السلام عليكم التي تكررت أربعين مرة, فإن كلمة (حرب) وردت عنده 540 مرة والتي كان معظمها يتحدث عن مسائل تاريخية كالحديث عن الحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الباردة والحروب الأهلية وحروب 1948- 1967- 1973- 1982 وحروب الخليج. المهم في رأيي هو تعمق سيادته في مسألة السلام, ومن أبرز هذا التعمق هو التفريق بين السلام وبين عملية السلام وأكتفي باستعراض بعض الاقتباسات للتأكيد على هذا الجانب المهم. ففي لقاء مع صحيفة دير شبيغل الألمانية بتاريخ 8/7/2001 قال سيادته: .. دعني أوضح لك هيكلية عملية السلام, هناك فرق بين سلام وعملية سلام, عملية السلام هي العنوان الرئيسي ولها عنصران الأرض والسلام. الأرض هي عنصر واحد متكامل, حدوده واضحة بالنسبة لنا وللمجتمع الدولي, وموثق لدى الأمم المتحدة, وهذا عنصر غير قابل للنقاش. السلام هو مجموعة عناصر منها المياه, العلاقات, الأمن, وقضايا أخرى, وهي خاضعة للتفاوض بعد حسم موضوع عودة الأرض كاملة. وأمام مؤتمر قمة بيروت الذي انعقد بتاريخ 28/3/2002 قال سيادته: .. أولاً أريد أن أوضح عملية السلام, هناك أحياناً خلط بين مصطلح عملية السلام والسلام, عملية السلام هي المصطلح الأشمل الأوسع ويتضمن أدوات السلام, أهداف السلام وغيرها من الأمور. كل شيء له علاقة بالسلام يأتي تحت عنوان عملية السلام, هي تتكون من عنوانين أساسيين الأرض عنوان فرعي والسلام مبدأ, هذه العملية هي الأرض مقابل السلام...). وخلاصة القول إننا نعد كتاباً حول جدلية الحرب والسلام في أدبيات الرئيس بشار الأسد في حدود ألف صفحة سيكون بين أيدي القراء قبل نهاية هذا الشهر يتضمن أكثر من 6000 اقتباس حول هذه الجدلية الخطيرة, وما أرجوه شخصياً هو أن تتضافر المؤسسات والجهات المعنية لتطوير هذا العمل ضمن جهد جماعي. وكتمهيد لهذا العمل الموسوعي ولإعطاء فكرة أولية عن طبيعته ننشر بعض البيانات الأولية التي وردت في أدبيات سيادته. آ- فيما يخص شخصيات الكيان الصهيوني نقدم مسرداً تنازلياً بتعداد ورود أسماء الشخصيات الكيانية: 1- أرييل شارون 60 مرة.. 2- إيهود باراك 23 مرة 3- إسحاق رابين 12 مرة.. 4- إسحاق شامير 6 مرات.. 5- شمعون بيريز 3 مرات. ب- فيما يخص المعاهدات والمرجعيات نقدم مسرداً تنازلياً: 1- مدريد 80 مرة.. 2- أوسلو 29 مرة.. 3- كامب ديفيد 3 مرات.. 4- واي بلانتيشن 2 مرة.. 5- واي ريفر 2 مرة. أما في ما يخص وديعة رابين فقد وردت أربع مرات في خطاب واحد فقط أمام قمة بيروت بتاريخ 28/3/.2002 ما قصدته تحديدا هو أن نقوم بقراءة جماعية لهذه المعطيات لصياغة رؤيتنا الجمعية من جدلية الحرب والسلام, وإنني إذ أقر بعجزي أنا والمجموعة المتواضعة التي تعمل معي لإنجاز هذا العمل فإنني أناشد كل من له علاقة أو صلة أو شأن بهذا الموضوع المصيري أن يتعاون معنا خارج مفهوم الاقطاعات والكانتونات. burhanboukhari@ gmail.com |
|