تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


«ســــــورية بلــــــدي...»

ثقافة
الجمعة 18-10-2019
ليندا ابراهيم

المهد: لطالما ذهبت تلك الطِّفلة، في منأى عن الأهل، تستكشفُ ذاتها في البرِّيَّة القريبة من ذلك المنزل البعيد الإيغال في الذاكرة، كانت تجلس في حاكورة البيت، أو رجوم الأرض المجاورة،

تجسُّ أطرى الصُّخور تتفحَّصُها، تتأمَّلُها، ثُمَّ تمضغُها! هي لم تكن تدري على وجه التحديد متى استهواها طعم تلك الصخور، ومتى تذوقتها لأول مرة وكيف، لكنها عرفتها واستطابتها، وباتت هوساً لديها كلما اشتهتها بحثت عنها وأكلتها..‏

نعم، كانت تأكل الصخور والحجارة من حجر يُسَمَّى محلياً «الحفحاف»، نوع من الحجر الطري، كانت تلذُّ بطعمه الهش، وتأمن لونه الأقرب إلى البياض، كانت تنتقي وتستخرجُ ذلك الفتات الصغير من الصخر، تنتقي ما لم يعلق عليه التراب، وتهشه بيديها الطفلتين، فإذا اطمأنَّت إلى هشاشته مضغته وابتلعته كما تمضغ وتبتلع الطعام.. ثمَّ، وفي مرحلة لاحقة، باتت توسع رقعة بحثها في الأراضي المجاورة والبيادر القريبة عن مثل هذا الحجر، وكثيراً ما كانت لا تستسيغ طعم أحده، فتبصقه فوراً، دليلها في البحث والاستساغة اللون والليونة والطعم. إلى أن انتبهت الأم إلى ابنتها، فنهتها ووبختها وأفهمتها خطورة فعلتها هذه، ثم باتت تراقبها مراقبة لصيقة، وتلاحقها إلى أن أقلعت عن عادتها هذه..‏

ها هي ذي، لاتزال عالقة في كهوف الذاكرة، ومغاور الشغف البدئي، طفلة حنت إلى طينها، والتصقت بالتراب حدَّ خلايا جسدها وروحها.. فإلى تلك الطفلة التي من طين.. القابعة في ركن خفي من روحي، والتي مع الزمن شربتُ روحها، وأشربتها النور من أصفى نبعة عرفتها، إليها ولا زالت تحتفظ بذكريات حنينٍ وشهوة لطعم ذلك الحجر-التُّراب، حنيني الوطن الحب: كم هي المدائن محزنة بدون حب، تحديداً المدائن التي لم تستطع أن تشذب من عشوائيات الزمن، والتي تضم في أحشائها كل ما هو مدمر وفاتك وقاتل، وبالوقت نفسه تريك كم هي فاتنة خالدة حد اشتهاء الخلود عينه.‏

ثماني سنوات من الأزمة الحرب، لم تكفِ الجميع ليرحموا هذه الأرض وشعبها المظلوم. الجميع داخلا وخارجا، بلا استثناء، من هذا البلد غير الأمين.. ببعض الحقيقة التي هي الحب، كان يكفي طاولة بحجم قلب الوطن لينفرط طوق الحقد ويكتمل عقد السلام.. الخلاص: حبات المطر المنهمرة الآن من أعين الآلهة.. هي نفسها دموع الرأفة برداً وسلاماً عليكِ.. وهذه الرياح التي استيقظت للتو هي التي تبرِّد بها الآلهة جرحكِ.. وهذا الخريف الأخير المتساقط من عقد دمعك العقيقي الذي سيعقبه شتاء يحمل ويحضن بذور الخير والنماء لكِ ولأبنائهم من بعدهم، هم الذين افتدوكِ ولم يروكِ وقد ازدنت بشقائق النعمان، وارتديت ثوباً من الأرجوان كان جدي السُّوريُّ الأكبر قد أوصى عليه كبير الآلهة ليعمدك به بعد طول عناء..‏

أيتها المخلِّصة الفادية الواهبة الخالقة.. لقد شاخ جسدك وتفسخ لكن روحك تتجدد الآن بأرواحهم.. فانهضي من كفنك.. ها هو وجه حبيبي يطل من بين شقائق النعمان هامساً صارخاً منقذاً عاشقاً.. ها قد شارفت سنيك العجاف على الانتهاء وهذا المطر يعد بسنين خضراء وارفات.. السَّلام: مَنْ قالَ إنَّ التُّرَابَ ظميءٌ فأقبَلُوا يروُوْنَهُ بدمائهم!!! مَنْ قال إنَّ جسدَ سُورية مُمَزَّقٌ فجاؤوا يرفُونه بأجسادهم الصغيرة..!!؟ مَنْ قالَ بينَ أيلول و تشرين سيكُونُ غَماماً أسودَ ثقيلاً..؟! سلامٌ على أرواحِكُمْ.. أيُّها السُّوريُّون السُّوريُّون السُّوريُّون..الذين من صميم براءتكُم وطهركُم ووفائكُم يولد كلَّ فجرٍ صبحٌ جديد..سلامٌ على روحك أيتها الأم العظيمة النَّازفةُ جرحَ الأبد..سلام على أرواح بنيك الأبرار الأوفياء الأنقياء البريئين..سلام على أرواحكم أجمعين..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية