|
كتب باموق استثمر لعبة المونولوج لينشر لنا خيوطه البوليسية القائمة عليها رواية (اسمي أحمر) مستخدما مفردتي (أنا اسمي) لكل عناوين فصوله التي جاءت بصيغ ثلاث متكررة على تسعة وخمسين فصلاً موزعة على 595 صفحة:(أنا الاستاذ عثمان, أنا شكورة, أنا زوج خالتكم) كذلك استخدم مفردة (ينادونني) فجاءت عناوين كثيرة على النحو التالي: (ينادونني فراشة, ينادونني لقلقاً, ينادونني زيتوناً). إلى جانب الحبكة البوليسية, والفكاهة المبطنة, وقع باموق أسير متعة الحكي أو الحكائية بحيث بدت الشهرزادية ميزة ملاصقة لبنية الرواية: (كان ياما كان في قديم الزمان) (كان الغربان في التبان..) كذلك (في قديم الزمان وجديده, حيث كل شيء يكرر وكل شيء ولا يشعر الانسان بالزمن لولا كبره وموته والعلم يكرر الحكايات والرسوم نفسها وكأنه لا وجود للزمن..) مع الصفحات الاولى سنتأكد أننا أمام رواية تاريخية تتناول موضوعاً ذكياً ونادراً يتمحور حول :(الفن التشكيلي الاسلامي, فسيكتشف القارئ أن باموق استلهم عنوان روايته من اللون الأكثر استخداماً في فن النقش والرسم الاسلامي عائداً إلى نهاية القرن السادس عشر, حيث بداية المواجهة الفنية الثقافية بين الشرق والغرب متمثلاً بهيمنة الامبراطورية العثمانية المعاصرة لفن النهضة الذي كانت مدينة البندقية مصدر اشعاعهها. فإثارة القضايا الكبرى سواء كانت ثقافية, تاريخية , سياسية شكل ميزة هامة ومعروفة عن قلم باموق الذي تناول بجرأة انشطار الهوية التركية (اسلام وعلمانية, قدم وحداثة, فقر وغنى) فهو برأيه أن قضايا التاريخ لا تقل سخونة عن قضايا الحاضر). المعلومات الزاخرة التي امتلأت بها رواية (اسمي أحمر) تثير اعجاب ودهشة القارئ, لا نستغرب أنه قد قضى في كتابة هذه الرواية عشر سنين من التفتيش وجمع المعلومات التاريخية حتى الانتهاء من كتابها, ففي البداية أمضى أربع سنوات في شراء الكتب ذات الصلة بموضوع الرواية, فقرأها جيداً ثم تفرغ ست سنوات كاملة للكتابة ولدى قراءة بضع صفحات ستفاجئنا درايته الدقيقة بفن النقش والطباعة على السجاد والجدران والخزفيات. الرموز حاضرة بكثافة عبر فصول هامة جاءت بعنوان من طراز (أنا حصان, أنا كلب) شغلت تلك الفصول بحرفية يندر أن تضاهى كذلك تميزت بجرأة اعترافية قائمة على خيال جريء وخصب مثال ذلك ونحن نقرأ عن شعور كلب عض رجلاً بساقه: (عضته من رجله حتى أحسست بأن أنيابي المغروزة في لحمه المدهن اصطدمت بعظمه, وهذا ليس أمراً بالنسبة إلى كلب, ليس هناك أمتع من غرز أنيابه في لحم عدو سيىء بحرص وغضب نابع من الداخل) وعلى لسان الحصان يأتي كلام تعمده باموق أن يكون بعيداً عن حس الفكاهة..(لا تأبهوا لوقوفي الآن هادئاً, ساكناً في الحقيقة أنا أعدو منذ قرون أنا أخب عابراً السهول, وخائضاً الحروب, وحاملاً بنات السلاطين لتزويجهن ومتنقلاً من الحكايات إلى التاريخ, ومن التاريخ إلى الأساطير.. رافقت الأبطال اللامهزومين, والعشاق الاسطوريين, والجيوش الخارجة من الأحلام وركضت أيضاً من نفير إلى نفير مع السلاطين المظفرين..) القهوة, حضرت كرمز للتحول الذي كان المجتمع التركي بصدده , بنفس الوقت الذي بدأت فيه دعوات الرسامين المقلدين لفنون البندقية فحدثت المجابهة الصعبة كذلك دخلت القهوة وكانت سبباً لانتشار المقاهي وبالتالي لحدوث الاجتماعات التحدث بالسياسة وأمور البلد وهذا ما كان يخشاه السلاطين وشن السلطان مراد الرابع حملته الشهيرة على القهوة والمقاهي وصدرت فتاوى دينية تحرم شرب القهوة! اسطنبول كمدينة استحضرها قلم باموق بحميميته المعتادة والشهيرة مع هذه المدينة وثمة جولة عشقية جديدة مع اسطنبول تكون حاضرة في كل عمل له تقريباً.. لا نستغرب ألاعيبه الجرىئة حين دس شخصيته تحمل اسمه(أورهان) في الرواية وتكون حاضرة بقوة في الصفحة الأخيرة حيث تقول شكورة الجميلة:(حكيت هذه الحكاية التي لا يمكن رسمها لابني أورهان لعله يكتبها.. إنه عصبي ومزاجي وتعيس دائماً ولا يخشى أبداً من أن يظلم من لا يجب, لهذا احذورا من تصديق أورهان. لأنه ليس ثمة كذبة لا يقدم عليها لتكون حكايته جميلة وتصدقها) بالضبط هكذا فعل باموق في هذه الرواية وكأنه صنع لهذا تتأكد مما صرح به يوماً عن نفسه:(حين تحاول كبح الذكريات ثمة على الدوام ظل منها يعود ويطفو. إنني ذاك الظل الذي يعود). لا بد أن نذكر بأن باموق روائي مولع بالألوان ويمتلك حساً عبقرياً إزاءها لهذا لا نستغرب أسماء رواياته: (الكتاب الأسود, القلعة البيضاء, ألوان أخرى.. واسمي أحمر. رواية اسمي أحمر طبعة ثالثة - 2005 دمشق |
|