تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


« رأس مقطوع.. أم عقول للتأجير »؟

إضاءات
الجمعة 26-1-2018
لينـا كيــلاني

هل يمكن أن نستعير دماغاً لشخص ما.. أو أن نزرعه في رأس آخر؟ قد يبدو هذا مستحيلاً.. إلا أن أحدث معجزات الطب تقول غير ذلك، وأنه أصبح من الممكن أن نستبدل الرؤوس، وأن نزرع واحداً مكان آخر. نظريات جريئة،

وتطبيقات مرعبة لم تعد مستبعدة في عالمنا اليوم ونحن نغز سريعاً وبعيداً في طريق العلم والاكتشاف، كما الابتكار والاختراع.. والأدوات التي تقع تحت الأيدي عديدة، ومتوفرة بما يخدم تحقيق كل الأفكار الجريئة حتى ولو كانت في سبيل جسم يحمل غير رأسه.. وسواء تحقق ذلك قريباً، أو على المدى البعيد فإنه أصبح وارداً.‏

لكن لماذا استبدال الرؤوس ما دامت هناك طريق أقرب، وأقصر في استعارة العقول، أو حتى مصادرتها؟.. فها هم أبناء العروبة يؤجرون أدمغتهم للغرب ليستفيد منها وهي في أفضل طاقاتها، وإمكاناتها الإنتاجية.. وليجد الواقع العربي نفسه في مواجهة واحدة من أخطر المشكلات ألا وهي هجرة العقول.‏

ألا يكفي أننا ندفع ثمن تكوين هذه الأدمغة من خلال التحصيل العلمي، والبحثي حتى تأتي بلدان تبعد آلاف الأميال عن بلداننا.. ومجتمعات لها تقاليد، وأعراف، وعادات تختلف عنا لتستلب إمكانات العقل العربي بما تقدمه من إغراءات، وتسهيلات في سبيل ذلك!‏

ففي الوقت الذي يبحث فيه صاحب الكفاءة عن الفرصة المناسبة له في بلده، وقد يعثر، أو لا يعثر عليها، فإننا نجد الدول الغربية تبادر لأن تحقق له أكثر من فرصة وبأفضل الشروط، وأنسبها. إلا أن أمراً واحداً وهو الأهم يقع في قلب تلك الامتيازات، ولا يغفل عنه العربي، ألا وهو ثمرة العطاء التي تعود بحصيلتها حصراً على تلك المجتمعات الغربية الحاضنة لكل عقل مبدع، ولكل منتِج بارع في وقت تسعى فيه الدول العربية لاستقدام الخبرات العلمية، والفنية الأجنبية ولو كانت بتكاليف مالية عالية قد تفوق إمكانات هذه الدول وهي تسعى للنهوض بمجتمعاتها.‏

أما مسببات تلك الهجرة فهي كثيرة، وما عادت تقتصر على البحث عن الاختصاصات النادرة التي لا توفرها سوى الجامعات الغربية بل تعدتها إلى الضائقات الاقتصادية، وقلة فرص العمل التي تتناسب مع الاختصاص العلمي بما يضمن لحامله التطور، والارتقاء في اختصاصه. وأضيفَ إلى هذه المسببات مؤخراً نكبات الحروب، والاضطرابات السياسية التي وقعت في البلدان العربية، وشجعت بدورها على فكرة الهجرة، وشكلت بالتالي دافعاً، وحافزاً للانسحاب من حضن البلد الأم نحو أم بديلة.. وليتحول الأمر في نهاية المطاف ربما إلى هجرة دائمة بلا عودة، واستيطان في تلك البلاد على مدى أجيال.. أو بمعنى آخر هجرة للعقول هي في اتجاه واحد، نكاد نشبهها بهجرة الريف إلى المدينة والتي ما زالت تفتقر لحوافز الهجرة المعاكسة. إلا أن القنوات التي يمكن فتحها مع هؤلاء المهاجرين لربطهم مع بلدانهم الأم تظل موجودة، والدول لن تعدم وسائلها نحو أبنائها لتشجيعهم للتواصل مع أوطانهم.‏

إن تواضع منجزات البحث العلمي في البلاد العربية تبعاً لعوامل عديدة، وأهمها عدم رصد التمويل الكافي الذي يتناسب مع أهمية البحث العلمي، وخطورته ما أدى إلى تراجعه، وشكل في الوقت ذاته سبباً كافياً لتحفيز الكفاءات العلمية على الخروج من مجتمعاتها نحو ثقافات جديدة.‏

ظاهرة ليست جديدة على بلداننا، بل إن موجات من هجرات العقول العربية قد سبقت قبل عقود، وعقود نحو أوروبا، والأمريكتين. أما الخسائر فهي لا تحتسب فقط بما يمكن لتلك العقول أن تساهم فيه من تحسين للواقع العلمي، والثقافي، والاقتصادي، والإنتاجي في بلدانها بل إنه يضاف إليها ما أنفقته تلك البلدان على أبنائها من تكاليف في التعليم والتدريب، ولا سيما في التعليم الرسمي والمجاني. والأمر الأخطر في هذا هو عندما تصبح الهجرة ضرورة، لا اختياراً قابلاً للرفض، أو القبول. هذا يجعل الدول الغربية تحصد الثمار دون تكاليف زراعتها، وإنمائها حتى مرحلة نضوجها. فهي إذن مكاسب لا خسائر، وثمار تُحصد دون تعب، أو نفقات.‏

وليس بالضرورة أن يكون العربي المهاجر هو ذلك الذي اتخذ قراره بالرحيل ومضى في طريقه، بل قد يكون من أولئك الذين أوفدوا للتخصص في الغرب فاستطابوا البقاء فيه ما دمنا نفتقر للعديد من التخصصات العلمية الحديثة لدى جامعاتنا، والمبرر عندئذ كافٍ لإيفاد مئات الطلاب إلى الدول الغربية حتى ولو فيها مجازفة الهجرة.‏

إن أغلب العلماء العرب البارزين ما زالوا يسكنون في الغرب، وقد لا يقع الوطن على خارطة تنقلاتهم إلا في حيز الزيارات السريعة، أو الطويلة لا فرق. وحتى لو عاد هؤلاء إلى بلدانهم، ومجتمعاتهم فإنهم لن يعودوا كما كانوا بعد أن تغيرت أساليب الحياة كما المفاهيم لديهم بما يكفي لئلا ينسجموا مجدداً مع المكان الذي نبتوا فيه.. وكأنهم أصبحوا أغراباً عنه بعد سنوات من الاغتراب.. وخاصة إذا ما وجدوا الحال على ما كان عليه. وما دام الغرب يهتم بكل إبداع، وفكر يأتي بالجديد فإن فرصة التوجه إليه قائمة باستمرار.‏

إن هجرة العقول في واحدة من أكبر موجات الهجرة في العصر الحديث أصبحت أمراً يؤرق حكومات الدول، حتى يكاد هذا الأمر يشبه رأساً مقطوعاً، أو مفصولاً عن جسده.. والجسد الذي هو الوطن ما يزال قائماً بينما الرأس قد انفصل عنه ليبحث له عن جسد جديد.‏

والهجرة عموماً هي مؤشر لخلل ما يكون هو الدافع، وهو المسبب لها. وما لم نقف على أسباب هذه المشكلة وتداعياتها لدى كل مجتمع فلن نستطيع أن نضع السياسات للحد منها إن لم نقل لوقف نزيفها حتى لا نفقد كفاءاتنا العلمية، وحتى لا نعزز الفجوة المعرفية بين الشرق والغرب.‏

إلا أن الهجرة سواء كانت طوعية أم قسرية فإن إحساس المواطنة، والانتماء يظل نابضاً في عقول المهاجرين وقلوبهم، فهم ولو غابوا عن أوطانهم فإن ارتباطهم بها يبقى قائماً، وهذا ما يجعلنا نقول إنها فسحة لتأجير العقول لا لاستلابها.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية