تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


اليابان بعد كارثة فوكوشيما

واشنطن بوست
ترجمة
الاثنين 4-4-2011
ترجمة: خديجة القصاب

في عام 1923 ضرب زلزال قوته 7،9 بمقياس ريختر عاصمة اليابان طوكيو ليفقد أكثر من مئة ألف ياباني أرواحهم نتيجة تلك الكارثة إلى جانب بقاء ثلاثة مليون مواطن آخر من دون مأوى اثر الهزة الأرضية المرافقة للزلزال

في كانتو ولم يكد يمضي واحد وسبعون عاماً على تلك المآساة حتى ضربت هزة أرضية أخرى منطقة كوبي مطلع عام 1995 ليقتل هذا الزلزال في هانشين أكثر من 6،400 ياباني أما الخسائر التي خلفها الزلزال فتجاوزت تقديراتها المئة بليون دولار أي ما يقارب 2،5٪ من الدخل الوطني لليابانيين وهي تقديرات مشابهة للاضرار المسجلة مؤخراً نتيجة وقوع زلزال في منطقة توهوكو شمال الارخبيل الياباني هذا مع العلم أنه لم يكد يمضي 18 شهراً على كارثة كوبي حتى وصل النشاط الاقتصادي في تلك المنطقة إلى 98٪ من المستوى الذي عرفه قبل تلك الأحداث المأساوية لتشييد مرافىء جديدة في تلك البقاع مجهزة بتسهيلات حديثة للسفن مع نمو مرافق سكنية مجاورة لتغدو المدينة نموذجاً للمدن الساحلية في العالم وتحفة أنظاره.‏

ومن الجدير ذكره أن ردود فعل السلطات اليابانية المتباينة تجاه تلك الكوارث ما هي إلا الدليل على أن مجتمعاً أكثر تقدماً ستكون مواجهته لتلك المحن بناءة بشكل أعمق وأوسع وحقيقة الأمر أن الكوارث تستطيع تغيير أمة بشكل أسرع إلى الأفضل أو الأسوأ لكن بأي اتجاه ترى ستسير اليابان من الآن فصاعداً بعد فوكوشيما؟ على امتداد العقدين الماضيين سجل معدل نمو الاقتصاد الياباني فقط 001٪ سنوياً وعلى الصعيد السياسي تترجم تلك النسبة فقدان البلاد دفة القيادة فالحزب الليبرالي الديمقراطي الذي حكم البلاد على التوالي منذ نهاية الاحتلال الأميركي للارخبيل في أعقاب الحرب العالمية الثانية لم يعد يلقى الترحيب في الأوساط الشعبية اليوم مع تأرجح الحزب الديمقراطي الحديث الولادة في سدة الحكم منذ توليه السلطة عام 2009 حتى ليكاد يفقد توازنه نتيجة هذا التأرجح.‏

وعلى امتداد العقود الأربعة التي تلت الحرب المذكورة خاضت اليابان تجارب سياسية قاسية تميزت بحذر الأحزاب المتعاقبة على طوكيو التي دعمها اقتصاد صلب هذا بينما لم يسجل للمناطق الريفية المأهولة بالسكان أي تأثير ينسجم مع السياسات الوطنية إذ لم تثمر انفاق تلك الحكومات اليابانية المتعاقبة لملايين الدولارات على البنى التحتية كإنشاء الجسور المعلقة عن أي فائدة ولكن في عام 1990 طفت على سطح الأوضاع السياسية فقاعات تنذر بالويل مع تقدم عمر فئة الأيدي العاملة لتنكمش تلك القوة الشعبية انطلاقاً من عام 1988 وهي التي نهضت بالبلاد بعيد تدمير هيروشيما وناغاساكي ولم ينقض عقد آخر حتى انخفضت نسبة عدد سكان اليابان وتقلص عدد المواليد في الارخبيل فقد أخذ الناخبون بعين الاعتبار النفقات الحكومية المتنامية بالنسبة لمشاريع عديمة الجدوى راحت تثير قلق الحزب الليبرالي الديمقراطي الصاعد.‏

فقبل أن يضرب الزلزال تسونامي منطقة توهوكي يوم 11 آذار كانت اليابان تعاني من تباطؤ اقتصادها من انكماش مالي شديد في ميزانيتها اضافة لعقود خلت تميزت بانفاقها العديم الجدوى الذي أرهق البلاد مع تجاوز الدين العام ضعفي حجم الاقتصاد الوطني لتسلط اليوم المأساة الإنسانية التي تعاني منها اليابان نتيجة زلزال فوكوشيما الأضواء على أضرار وخسائر ستتردد أصداؤها على نهضة الاقتصاد الوطني من جديد إلى جانب معالجة أحداث كارثية لا تعرف عقباها وقد يتسع مدى تلك الأضرار في حال اقترب حجم الدمار الذي لحق بالمفاعل النووي الياباني من الأضرار التي لحقت بنظيره مفاعل تشر نوبل وبخاصة في «جزيرة الثلاثة أميال» ولكن إذا تمت إعادة ترميم وصيانة المفاعل المذكور بمهارة فسيكون هناك أمل كبير في نهضة «يابان مختلف» في المستقبل فرغم الخطوات المتواضعة التي بدأت الحكومة تقوم بها إلا تلك الخطوة لم تعد تملك إلا أعداداً محدودة من الأوراق بين يديها فنسبة 95٪ من دين طوكيو العام في أيدي المواطنين اليابانيين الذي يملكون أسهما وسندات مصرفية بإمكانها سد العجز في ميزانية الدولة ومن المرجح حسبما يرى المراقبون ألا يعمد هؤلاء المالكون للتخلص من أوراقهم المالية وسنداتهم في حال استدانت طوكيو المزيد من الأموال لإعادة بناء سيندي المنكوبة على سبيل المثال هذا وبإمكان طوكيو التحرك في هذا الاتجاه غداً نظراً لقدرتها على المناورة بعكس ما تبدو عليه الأمور حالياً ويمكن تمويل مفاصل ومرافق عملية إعادة بناء ما دمره زلزال فوكوشيما من خلال تدوير النفقات العامة المخصصة للمشاريع الضخمة التي تكون عائداتها محدودة على المدى القريب بالقياس إلى تكاليفها الباهظة هذا إلى جانب تحسين نوعية استثمار القطاع العام للأمة اليابانية وبشكل مستدام كنتيجة لاحقة للأزمات الحالية المتعاقبة على الارخبيل وقد يحد انخفاض عدد الأيدي العاملة في اليابان من قدرة تلك القوى المنتجة على إعادة بناء أركان الوطن من جديد مما سيدفع هجرة العقول والكفاءات خارج البلاد مع احتمال اهمالهم لتلك القضية الشائكة لقد بذلت اليابان جهوداً مضنية ومنذ زمن بعيد لأحكام سيطرتها على حدودها وتضاريسها مما جعل من الصعوبة بمكان إقامة الأجانب في هذا البلد والعمل فيه وتأتي كوريا الجنوبية في طليعة الدول الصناعية الرائدة التي تسمح بمشاركة منخفضة للأجانب في مراكز عمالتها لكن في اليابان الأمر مختلف إذ انخرط أجانب الارخبيل في أنشطة مختلفة تتراوح بين الاستفادة من المغتربين ذوي المهارات العالية كالياقات البيضاء من عملاء وأطباء وصولاً إلى فئة أخرى تملك مهارات محدودة تشكل غالباً المهاجرين غير الشرعيين والعمال الوافدين من الريف الياباني الذين تزوجوا حديثاً ويحتاجون للأموال لبناء أسرتهم.‏

ويرى المحللون الاقتصاديون أن اليابان تحتاج لاستيعاب المزيد من الأيدي العاملة في مصانعها وورشاتها ليتمكن اقتصادها من المنافسة التي تتضاعف حدتها سنوياً.‏

فعلى امتداد العشرين عاماً الماضية نقلت مئات الشركات اليابانية مكاتب إداراتها المركزية من كاوساكا وكيتاكيشو إلى العاصمة اليابانية فانتقال تحول الامبراطورية الارخبيل إلى ما بعد المجتمع الصناعي بقفزاته العملاقة مع ما رافقه تقلص المؤسسات المالية في الأقاليم والاهتمام بثقافة الاتصالات أولاً المدعوة بالتواصل وجها لوجه على صعيد الأعمال التجارية ساهم في تمركز الحياة الاقتصادية في طوكيو وتمحورها حول تلك المدينة ويظل الرهان وقرار تمرير تلك المستجدات في أيدي اللاعبين السياسيين وأحزابهم وإذا استطاع الحزب الديمقراطي الياباني إدارة تلك الأحوال الطارئة بنجاح يكون قد أثبت للناخبين اليابانيين بأنه وهو حزب حديث العهد يمثل خياراً وبديلاً أكثر مصداقية من خصمه الحزب الليبرالي الديمقراطي القديم في الساحة وستمتلك بالتالي اليابان نظاماً برلمانياً يعتمد على حزبين سياسيين يخوضان معارك سياسية حقيقية.‏

ويحتمل في المستقبل أن تنبثق اليابان كدولة أكثر حداثة تجمع بين التقاليد والتطور ذات سياسة. جوهرها وأفقها ديمقراطية ولكن في حال لم تبذل اليابان قصارى جهدها لحل الأزمات التي خلفتها كوارث فوكوشيما، يصبح زلزال توهوكي الكبير شبيها باعصار كاترنيا مع توقع عودة الحذر والشكوك التي ستساور جمهور الناخبين مع رجوع الحزب الليبرالي الديمقراطي إلى واجهة الأحداث وأحياء أوضاع امتدت قرابة النصف قرن الماضية.‏

أما بالنسبة للطريق الذي ستسلكه اليابان غداً فالأمور باتت في أيدي السياسيين مما لاشك فيه أن اليابان تملك قدرة هائلة للتكيف مع الحالات الطارئة إضافة لتماسك نسيجها الاجتماعي وشعبها الجبار سيسهم في إعادة بناء المناطق المدمرة ولكن هل سيدفع هذا الأمر البلاد للنظر إلى الوراء حيث الماضي أم سيحثها باتجاه مستقبل أكثر طموحاً؟‏

إن الرهان الآمن هو في الرجوع إلى سياسة الأمر الواقع رغم انخفاض طبيعي للأيدي الخبيرة العاملة منذ أن تعرضت اليابان للتغيير بسبب كوارث طبيعية ليشكل زلزال توهوكي الكبير صدمه من شأنها دفع اليابان ليس فقط باتجاه إعادة بناء مدينة مدمرة وإنما لإعادة بناء ذاتها سياسياً لمواجهة القرن الحالي.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية