|
دراسات في سورية العربية ومن أعمدة هذه الذاكرة تفرض حضورها ورسوخها حرب تشرين المجيدة التي لم تكن رد فعل فحسب ولم تتحول إلى ذكريات واحتفاليات بل صارت في عمق الذاكرة الوطنية ومعيار كل حركة أو خيارا بالمنهج التشريني الذي اتسم كما هو معلوم بسمات ثلاث أساسية سرعان ما تحولت إلى ثوابت وخصائص؛ السمة الأولى أن هذه الحرب هي وعي وإرادة وإنجاز، وقد أعادت الاعتبار لقيمة الإنسان والتاريخ العربي في معارك هذا العصر القاسي، كان السائد أن العرب أمة مهزومة قبل أن تُهزم، وهي مازالت تعوض هذه الهزيمة المتكررة بالهذيان التاريخي والشعارات الجوفاء، حيث يبقى الواقع المؤلم والبائس كما هو، ويتناوب العرب على اجترار المأساة رغم هذه الحالة المتضخمة من الإدعاءات والشعارات. لقد جاءت حرب تشرين لكي تحطم هذا البعد وتدفع إلى الساحة العالمية بالنموذج السليم والكفيل بشد انتباه العالم عبر خصائص العرب في إنجاز الصحوة بعد الكبوة والتجمع حول القرار الصعب في المحاصر والمتسبب معاً، هذه هي السمة الأولى بالمعنى الفكري والفلسفي والتاريخي وخلاصتها أن للعرب وجودهم رغم المخاطر وقرارهم رغم التجزئة ومنهاجهم رغم الضياع الثقافي. أما السمة الثانية فقد تمثلت في إطلاق المد ضد العدوان الصهيوني بطريقة الفعل ورد الفعل وإنجاز التشكل القومي ولو في حدوده الدنيا على هذا الأساس أي على شرطي الثقة بالذات ونقل هذه الثقة إلى ميادين المواجهة، وهذه السمة بدأت تتسرب بدرجات بطيئة بعد نكسة حزيران مباشرة، فقد أحس العرب جميعاً أن كارثة النكسة لابد أن تستقر على صحوة وانبعاث من جديد. أما السمة الثالثة فهي أن هذه الحرب العربية الأولى قد حققت شرط الأولويات الصحيحة وشرط السمو فوق الجراح وإن كان بعضهم قد صور هذه المرحلة ما بين النكسة في حزيران والحرب في تشرين إن هي إلا حالة من حالات تجرع مرارة الهزيمة وإعادة إنتاج كل مصادر الحياة العربية على مثال الاندحار والبؤس والإحباط والاعتياد بعد ذلك على الخلل والتجزئة وتسليم الأمر للأقوياء المستبدين في هذا العالم. وقد ذكرنا مثل هذا الطرح بما كان يتطلع إليه المجموع الحاقد على الأمة في العمق وعندهم أن الأخطر من الهزيمة هو فقدان الذاكرة العربية والهذيان في عالم مفتوح والانتقال من الواقعية إلى مستوى التسليم بالأمر الواقع، ولكن عوامل الأصالة ودرجة الألم عند العرب وانتشار الفكر القومي من الأدب إلى السياسة إلى ثقافة الصراع، ذلك كله حول الهزيمة في حزيران إلى مقدمات كبرى لإنجاز حرب تشرين التحريرية عبر زمن قياسي لم يتجاوز السنوات الست. ومعلوم أن حرب تشرين عظيمة بمعالمها ودروسها ولكنها ظلمت من العرب قبل غيرهم حينما تحولت إلى حدث أو إلى مناسبة للتذكر والبحث عن مخرجات غير واقعية، كانت مجموعة القوى المعادية ولاسيما في الغرب الامبريالي وفي فعاليات الحركة الصهيونية كما في التوابع الرجعية والإرهابية بعد ذلك كلها تستشعر الخطر، فهناك خصائص في الواقع العربي تمتلك قابلية العودة إلى المسار الصحيح وبناء نظام الأولويات والوعي بأن الخطر الاستعماري الصهيوني يهدد العرب كل العرب في وجودهم قبل أي بند آخر وفي ذاتهم قبل أي جزء آخر واجتمع المعتدون لكي يلغوا في الحياة العربية خاصية الانبعاث والإحساس بالمسؤولية فكان لديهم هذا الأفق الواسع والعميق في دراسة الإنسان والتاريخ والمحطات الكبرى في الزمن العربي. ومن هنا اكتشفوا أن هناك عوامل هي جذور ومناقب ومحرضات ومحركات لابد من تدميرها بما يوازي العمل العسكري ويتقدم عليه ويضبط إيقاع حركته في المآلات عبر المعارك، وهكذا كانت حرب تشرين دافعاً حيوياً ومهماً لخلق عدوان نوعي وكمي هذه المرة من شأنه أن يجمع الأطراف الحاقدة جميعاً في العدوان على سورية وفيها قبل غيرها، والهدف هو تدمير عوامل البناء الجذرية من الداخل العربي والوطن السوري وكان في العمق اتجاه يؤكد ضرورة أن تكون الحرب على سورية هي اجتثاث لكل مقومات الدور الوطني والقومي السوري، وهذا يتطلب عوامل توظيف ثقافي وفكري تمثل بتزوير دين الإسلام الحنيف ويتطلب انقلابا على الذات العربية من داخلها، ويتطلب تدميرا في العمق وحصارا اقتصاديا من الأفق، وهذا هو سر حرب الإرهاب على حرب تشرين المجيدة توخياً لإبادة الأمة بوجودها ومهامها التاريخية. |
|