تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


من حبر الحرب.. همس اللغة وعنفهـا.. وردة الريـح تنسـج قمصان المعانـي

ثقافة
الاثنين 7-10-2019
ديب علي حسن

هل فكرت يوما ما أن تسأل نفسك: كيف تغير الحروب مجرى التفكير, وتعصف باللغة إلى غير مكانها, تبدل المفردات معانيها, تتركها إلى مكان آخر, ربما لا يحمل من المعاني التي صار عليها شيئا,

لكن (المفردات) استقرت عليه, ربما تصدأ زمنا قبل أن يأتي من يزيحها عن المكان ويعطيها غير هذا الخراب الذي حلت به, وحملته إلينا, ومن غير الشاعر قادر على فعل ذلك؟.‏

ألم يكتب عباس محمود العقاد اللغة الشاعرة, ومن قبله جبران خليل جبران, حين تحدث عن التجديد اللغوي واستمرارية اللغة العربية ومستقبلها, لم يبق إلا الشعراء في الميدان, وهذا ما يخلص أدونيس إليه في كل ما يكتبه عن اللغة العربية التي رأى أن بعض مفرداتها فرطت من كثرة الاستخدام, ولابد من إعادة شحنها بطاقات ومعان جديدة..‏

إذا كان الشاعر هو الطبيب المداوي, فإن الحروب هي التي تشحن المفردات بعنفها, لكن ثمة من يرى أن اللغة بذاتها تحمل العنف, وهذه سيمة موجودة في لغات العالم كله (يتحدث عن ذلك كتاب عنف اللغة, لجان جاك لوسركل) وما بين العنف الذي تتركه اللغة وتقدمه, يمكن طرح أكثر من سؤال: هل اللغة تقودنا إلى الحرب؟.‏

إذا كانت كذلك, فمن المسؤول عن ذلك؟ أهم الشعراء أم السياسيون؟ هل الشعراء يرممون ما خربته اللغة في عنفها ويعيدون صوغه بدلالات جديدة, كيف يفعلون ذلك؟.. وربما علينا أن نطرح السؤال الأكثر ضرورة: ماذا فعلت هذه الحرب المجنونة بلغتنا العربية؟ كيف تجلى أثرها في بيان الشعراء وإبداعهم؟.‏

بالتأكيد المجال واسع وشاسع, ولايمكن الإحاطة به بسهولة,ولكن من خلال الرصد للكثير من الاصدارات الابداعية يمكن أن نعدد عشرات المجموعات الشعرية والروايات والقصص, وغير ذلك, من المجموعات المهمة التي يجب الوقوف عندها.. مجموعة (وردة في عروة الريح) للشاعر الدكتور ثائر زين الدين, وهي صادرة عن الهيئة العامة للكتاب بدمشق.‏

وردة في عروة الريح‏

إذا ما قلنا فرضية لوسركل حول عنف اللغة بحد ذاتها, فمن العنوان نجد ثمة جدلية كبرى واسعة, وردة, بما يحمله المعنى من عطر وشذى وجمال, في عروة الريح, والعروة الشق والخرق في الثوب, أو أي شيء آخر, فعل انتهاك وتمزق, يضاف إلى الريح, أي ريح يقصدها الشاعر؟ أهي ريح صرصر, أهي ريح ثبير (اشرق ثبير) أهي ريح المطر, أم العاصفة التي تهب, أريح السموم, مفردة طافحة بكل الدلالات والاحتمالات, اثارت كوامن المعاني,وفجرت في النفس معاني متشظية, ربما ذكرتنا بجدلية أبي تمام بوصف الجمل (رعته الفيافي حقبة بعدما رعاها وماء الروض ينهل ساكبه).‏

المجموعة التي تقع في 128 صفحة من القطع المتوسط, تقدم أنموذجا مثاليا للقراءة في تحولات الجملة الشعرية ومفرداتها, في قسمها الأول الذي حمل عنوان: مشاهد سورية, وهي قصيدة ملحمية تستغرق من الصفحة السابعة الى السابعة والسبعين, وموزعة على 33 مشهدا, يكثف الشاعر اللغة ويلتقط بحرارة الحدث ما يجري, وفوق أتون النار التي يتسم بها الحدث يدخل زين الدين المفردة أو الجملة الشعرية مخبر الوجدان الجمعي, لا الفردي, فالحدث يؤلم كل سوري, لتخرج أكثر سخونة وقدرة على التطهير وحرق الأدران:‏

تتشبَّثُ قبلَ الرحيلِ بحافلةْ الجُندِ:‏

أعلمُ أنّك لستَ تعودُ.. فيرفَعُها الأصحابُ إليهِ،‏

يُقبِّلُها، ويُهدِّئُها:‏

لابدَّ لنا أن ندفَعَ هذا الليلَ...‏

سنرجِعُ، لا تخشي شيئاً،‏

لن نتركَ هذا الموتَ الغادرَ يسرقُ منّا أحدا.‏

ويُقبِّلُها، يهمسُ: «سوفَ أعودُ،‏

وننجبُ بنتينِ بمثلِ جمالكِ،‏

قد تلدينَ لنا ولدا، وأُسمِّيهِ على اسمِ أبي،‏

أو باسمِ أبيكِ فلا فرقَ...»‏

تُكفكفُ دمعتها الآنَ، وتَسقي التُربَةَ،‏

تُسندُ وردات الجوريِّ إلى الشاهدةِ البيضاءِ،‏

وتُطعِمُ طيراً لم يتأخَّر عن موعدها‏

منذُ ثلاثةِ أعوامٍ،‏

ينظُر في عينيها فَرحاً،‏

ويمُدُّ جناحاً - نحو يديها الراجفتينِ-‏

كما لو كان يدا‏

سيناريو ليس متصورا ولا متخيلا, إنه حقيقة وواقع, لكنه عبر واستقر مخمر ومجمر الإبداع حمل من قلب كل سوري نبضا ومن دمه قطرة, ومن عيونه ضوءا, ومن روحه وعقله أملا, استعاد الشاعر زمن الملاحم بقوة الحضور الابداعي المتخم بالمشاعر واللغة التي لم تخذله, فنال على القصيدة الملحمية جائزة مهمة ورفيعة من اتحاد كتاب روسيا, يستمر السيناريو حسب تسلسل زمني مبرمج, يحملك نبض القصيدة من بدء الحرب المجنونة إلى يومنا هذا:‏

كان ليلُ دمشقَ يُضاءُ بألعابهمْ‏

قلتُ: من أينَ تأتي مئاتُ الصواريخِ؟!‏

قالَ صديقي: لقد أصبحَ النسرُ يا صاحبي‏

مُستباحا!‏

تُدفِّعهُ بالجناحِ الكليلِ بغاثُ الطيورِ،‏

فيُغضي على حُزنِهِ...‏

ها قد اختارَ وكراً لهُ في السفوحِ...‏

بكى ساعةً واستراحا..‏

هممتُ أُؤكِدُ ما قالهُ؛ غيرَ أنِّيَ أبصرتُ أهلَ دمشقَ‏

على شُرُفاتِ البناياتِ...‏

فوقَ السطوحِ!‏

كأنَّ صواريخَ «تلِّ أبيبٍ» دُمىً تتكسَّرُ‏

فوقَ الرؤوسِ المهيبةِ...‏

سالت دموعيَ: لم يفتِ الوقتُ بعدُ...‏

سينتفضُ النسرُ عمّا قريبٍ،‏

فيطرَحُ عنهُ الخمولَ،‏

ويُلقي - كرملٍ يُغطِّي جناحيهِ - هذي الجراحا..‏

وردة في عروة الريح عمل ابداعي بقدر ما تحمله من اللغة الطازجة البهية, هي خلخلة في بنية الفعل الجامد الذي تيبس, وقد استطاعت أن تحفر مجرى عميقا في القدرة على التأثير باستخدام تقنيات الابداع كافة لنقل آلام الحرب,وكأننا بالشاعر على بساط الريح يلملم من كل قلب وردة وعطرا ليكون المشهد سوريا بأمله وغده.‏

d.hasan09@gmail.com‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية