|
نواقيس على استهداف شرائح المجتمع العراقي بتعاقب منهجي , بدأت خطوته الأولى بحل الجيش وتفكيك مؤسسات الدولة جميعا بحيث تركت البلد في حالة انعدام وزن لم يشهد لها مثيلا منذ قيام الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي . وأخذت الحلقات الأخرى تتابع وتتلاحق بإلحاح, جسد المعاناة الحقيقية لمعظم العراقيين الذين كانوا يفقدون وظائفهم وحياتهم وسط دوامة من العنف والفوضى ,لم يعرف أي بلد محتل قبل العراق مثله , وكأن ذلك هو التجسيد الوحيد للشعارات التي وضعها المشروع الأمريكي على واجهة أرتاله وهي تتقدم داخل العراق مطبقة سياسة الأرض المحروقة . واعتقد الكثيرون أن الخطط التي اعتمدتها الإدارة الأمريكية في العراق كانت محصورة في نطاق منتسبي الدولة مدنيين وعسكريين وأعضاء الحزب , ولكن ما جرى لاحقا أوضح أن المقصود وباختصار شديد هو اقتلاع بنية الدولة وركائزها ,وضرب مصادر الثروة الاجتماعية وتفريغ البلد من إمكاناته المادية والبشرية , فقد اندلعت حرب اجتثاث لفئات اجتماعية بلا هوادة , بدأت فصولها الأولى في ملاحقة دموية للأطباء عموما ولذوي الاختصاصات النادرة منهم بشكل خاص , وتم إغلاق المئات من العيادات الخاصة , والتي كانت تشكل ملاذا لمرضى فقدوا بشكل فجائي خدمات الدولة لهم , وهذا أوجد وضعا معقدا إلى أبعد الحدود لمن ارتبطت حياتهم بما يحصلون عليه من التزامات طبية من الدولة أو من أطباء, ترك البلد من بقي منهم على قيد الحياة , وتشير أرقام لمنظمات دولية أن عدد الأطباء العراقيين في الخارج يقرب من ستة آلاف طبيب . وتوسعت دائرة الاستهداف , ولم توفر أساتذة الجامعة الذين انتشروا في بقاع الأرض دون عمل يتناسب واختصاصاتهم أو تحصيلهم العلمي , فأصبحوا في أسوأ ظرف يمكن أن يمر به إنسان قضى جل عمره في الدراسة والبحث العلمي , أما الصحفيون العراقيون فقد سقط منهم أكثر من 160 شهيدا , لأنهم كانوا عين الوطن وأذنه بل وضميره , هذا بخلاف حملة القلم والكاميرا من غير العراقيين الذين حملوا أمانة الكلمة لينقلوها إلى الرأي العام العالمي , وأخذت مواسم حصاد أصحاب الخبرة والاختصاص تتلاحق, حتى حصلت أكبر مساواة للرعب و الموت في أية بقعة في العالم . وبعد أن توقع من يدير آلة الموت الأحمر أن العراق بات خاليا من خيرة موارده البشرية , اما بالتغييب بالموت , أو بالتهجير إلى الخارج , فقد بدأت صفحة أكثر وحشية وهمجية , وهي استهداف الأسواق العراقية الثرية بالتواصل مع المدن الاخرى , أو بقدرتها على التكيف مع كل التطورات الآنية الحاصلة , لأنها وببساطة تختزن معظم ثروة البلد وموجوداته من السلع الأساسية التي بدونها ستحل كارثة في المجتمع , على شكل مجاعات من جهة وإفلاس طبقة التجار الذين بيدهم القدرة على إبقاء السوق على قيد الحياة . إن من تابع التفجيرات الأخيرة في سوق الشورجة الذي يعد بحق أكبر أسواق العراق وأكثرها تنوعا وتلبية لكل ما يحتاج الإنسان إليه , وقبل تلك الاستهدافات للسوق نفسه , يتأكد أن المطلوب ضرب خزين البلد مما يمتلك من موجودات من سلع وبضائع وأموال سائلة ومن أبنية كبرى هي خلاصة جهد العراقيين لقرن من الزمن . ويبدو أن الهدف اللاحق من تجريد تجار الأسواق العراقية من كل ما يمتلكون , وخاصة أن الدولة لا تعوض أحدا فضلا عن أن شركات التأمين لا تستطيع مواكبة هذا القدر الهائل من التدمير ,نقول ان الهدف من هذا كله هو إحلال طبقة جديدة من التجار تعتمد في معاملاتها أخلاقيات المحتل الأمريكي , وتعتبره صاحب الفضل الأكبر عليها حينما جاء بها بديلا من وسط تجاري اعتمد حدا معقولا من الائتمان والثقة بين المستهلك والتاجر . بعد هذا كله من حقنا أن نوجه إصبع الاتهام إلى أولئك الذين أداروا طاحونة الموت والدمار في العراق بأنهم أيضا يقفون وراء ضرب الركائز الاقتصادية القوية فيه لتفريغه مما تبقى لديه من أموال , بعد أن تم تفريغه من كوادره ومثقفيه وخلاصة بنائه الحضاري ,وهم حصرا المحتلون ومن يتراصف معهم . *كاتب عراقي |
|