تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


اللـغـــة مــن الكلمــة إلـــى الكتابـــة

ملحق ثقافي
الثلاثاء 20/2/2007
خضر الآغـا

شاقة رحلة الكلمة في تأكيد قدرتها على الخلق، وفي مسيرتها العسيرة نحو اللغة، ثم

الكتابة.‏

لقد واجهت الكلمة الاضطراب والفوضى اللذين شوشا على الكون على مدى قرون وقرون، وذلك منذ أن انفصلت عن الشيء ولم تعد مطابقة له. الشاق في هذه الرحلة أنها في كل مرحلة من مراحل تطورها كانت تريد أن تؤكد ذاتها كقوة خالقة. وكان ما يمنح رحلتها، رغم صعوبتها، تلك العذوبة الشفافة، هو ذلك النجاح الذي كانت تحرزه في كل مرة عبر قدرتها على التحول والتجدد: كلمة – لغة – كتابة... في بابل لاوجود لشيء قبل تسميته، إنه ينوجد مع التسمية، ما يعني أن العلاقة بين الاسم والمسمى تطابقية. حين اكتملت الأنساق الصغرى وأُطلقت التسمية الأولى، تم التعبير عن ذلك ببناء النسق الأكبر: برج بابل، كبرج لغوي يحتضن الدلالات جميعها، ونصب الإله مردوخ في أعلى البرج على أنه إله الدلالة، معلناً اكتمال النظام العام لذلك الكون البدئي الشفاف بأضلاعه الأربعة: الله والإنسان والطبيعة واللغة، حيث نصيب كل منها في الخلق مساوٍ لنصيب الآخر، وحيث العلاقة بين طرفي العلامة علاقة تشابه: الملك، كمثال، يتخذ صورة رجل على رأسه تاج، وقد وضع ذلك كله، على مستوى المنطقة، فيسجل الكينونة الخالد: الإينوما إيليش. وقف اليهود أمام ذلك البرج الذي يمنح الدلالة للوجود ويصونه، أو بالأحرى، يحتوي الوجود ويصونه، بارتياب. فقد وجدوا أن النظام العام لذلك الوجود يتعارض مع طموحهم وطموح إلههم "يهوه" في الاستئثار والتفرد والسيادة، فحاولوا، مستفيدين من نظام الكلمة الخالقة، العبث بذلك النظام، مع ما يترتب على ذلك من حدوث اضطراب وفوضى عظيمين. وذلك كله لإنشاء وجود آخر يسمح بتحقيق طموحهم، ولم تكن تنقصهم القدرة على ذلك، فهم، في اللغة القديمة: "سا.غاز"، وتعني: "لص، قاطع طريق". ففصلوا الإله عن الإنسان، واستبدلوا بمردوخ يهوه، وبالإينوما إيليش التوراة: وثيقة انهيار البنية البابلية ونشوء بنية أخرى على حسابها. بقيت الكلمة بالمفهوم البابلي تقاوم، واستطاعت الظهور،مرة أخرى، على أنها مقدسة. فقد ظهرت وتجسدت بالمسيح الذي دعا كثيراً للعودة إلى شفافية النظام الكوني العام، عبر طروحات المحبة والتسامح والسلام، ووضع ذلك في الأناجيل. إلا أن الأكليروس المسيحي ربط الأناجيل بالتوراة، وحدث، جراء ذلك، تصادم عنيف بين البنيتين، كان من نتيجته إعلان موت الكلمة، وقد تم التعبير عن ذلك بصورة تراجيدية: صلب المسيح، بوصفه كلمة. في الأناجيل تأكيد على أن المسيح قام، وذلك يعني أن الكلمة قامت، وسوف تعاود الظهور، إنما على شكل آخر. وسيتحقق هذا الشكل الآخر على صورة شديدة البهاء. في مكان قصي وناء سوف تكون اللغة "بيت الوجود" وفق تعبير لهيدغر. وسوف يقوم الشعراء العرب، بوصفهم يقيمون في منطقة الـ " ما ـ بين"، بين الآلهة وبين البشر، بحراسة هذا البيت وإنشاء الوجود انطلاقاً من اللغة، سينشئون أبراجاً لغوية كبيرة تسمى قصائد ومعلقات: ينامون فيها ويعيشون في ردهاتها. لكنهم، وإن كانوا كائنات من لغة، إلا أن أجسادهم اللغوية لم تتزامن مع أجساد كتابية، لذلك لم يكن من العسير حرف مساراتهم، واعتبارهم "جاهليين" يجب إيقاظهم. إنما في الوقت الذي راحوا ينحسرون فيه، فإن دمهم اللغوي أخذ يتسرب في الكون، وسيفرض نوعاً من التفكير الحاد حول اللغة، سيتجلى في مظهر باذخ: النص القرآني. ظهر النص القرآني بوصفه لغة. وبوصف هذه اللغة لغة الله، فقد نشأ تفكير دامٍ حولها، كان من تداعياته نشوء ثقافة جديدة، ليس على مستوى المنطقة فحسب، بل على مستوى العالم. وقد أثبت ذلك التفكير أن الكلمة البابلية عادت للظهور، مرة أخرى، إنما على شكل لغة خالقة: بدءاً منها تأسس معنى ووجود جديدان. لقد تم بناء برج لغوي احتضن الدلالات جميعها، بل احتضن الوجود: "الكتاب". وهذا سيكون دليلاً قوياً على أن التفكير حول اللغة، كما يعبر تودوروف، أصل كل ثقافة إنسانية. كان من دواعي حماية "الكتاب" من التحريف والتقويل، وبصفة أساسية، من اللحن في قراءته، كتابته. من هنا انضاف بعد آخر في عملية الخلق: الكتابة. إذ إن اللغة، بالاستفادة مما حل بالحياة الجاهلية، كي تحقق غايتها يجب أن تكون مكتوبة. وعلى هذا سوف ينقسم التاريخ العربي إلى مرحلتين: ما قبل الكتابة، وما بعدها. وسوف تتأكد الكتابة من أنها الشكل الأبهى الذي وصلت إليه الكلمة في مسيرتها العسيرة التي تحملتها، بل صنعتها، للاحتفاظ بقدرتها الفائقة على الخلق. وسوف تنظر الكتابة إلى التاريخ الذي تشكل قبل وجودها نظرة الشك والارتياب والتساؤل. وإذ وعت الكتابة نفسها، وأدركت أنها الأمل الأخير لإعادة النظام إلى الكون الذي تشوش اضطرب منذ أن انفصلت الكلمة عن الشيء، الاسم عن المسمى، الدال عن المدلول، وذلك عبر تحركها اللطيف في تلك المساحة الخضراء الفاصلة بينهما، انتقل التفكير الجحيمي حول اللغة إلى التفكير حول الكتابة. فظهرت أشكال أخرى لها، وتم حماية تلك الأشكال بدروع معرفية كبيرة، ستجعل التراجع عن فكرة الكتابة تراجعاً عن الوجود، فاتخذت طريقة التفكير حول الكتابة صورة للتفكير حول تطويرها وتوليد أشكال لم تنفك تتجدد. في قلب هذا التفكير، في قلب تلك اللجة، ظهر تفكير يعتبر أن العالم برمته عبارة عن كتاب تتلألأ فيه العلامات والإشارات التي بكشفها، بإزالة الحجب عنها، يظهر كون آخر بهي وخال من اللوائح والأنظمة والشرائع التي حجبت الوجود والكينونة. هذا الكون متخف داخل تلك العلامات وهذه الأخيرة تنطوي عليه، وأطلق هذا التفكير على نفسه أنه تفكير الحقيقة، فخرج أهله لابسين الصوف إشارة إلى أنهم هم أيضاً علامات في ذلك الكتاب الكوني: هذا التفكير هو التفكير الصوفي. رجع الصوفيون إلى النص القرآني، وأعادوا قراءته، وأولوه بما يختلف عن التأويلات حينها، فكان من نتائج ذلك التوصل إلى نشوء تصور عن كون جديد شديد الشبه بالكون البابلي، هو ما أستطيع تسميته: الكون الصوفي. (التشابه بينهما مجال لدراسة أخرى). مع النص الصوفي لاجدوى من الحنين إلى شفافية النظام الأول للكون، نظام المطابقة بين الكلمة والشيء، بين الاسم والمسمى، بل على العكس، كلما اتسعت المسافة بينهما، كلما حضرت الكتابة. إن للغة، حقاً، نظاماً خاصاً له وحدته وتماسكه الخاصان به، وبناء عليه يقرر نص التصوف بقلم ابن عربي: "اتل القرآن من حيث ما هو لا من حيث ما تدل عليه الآيات". بعبارة أخرى: انظر إلى النص القرآني كبنية لغوية. وفيما كان النص الصوفي يرى إلى الوجود يخرج من كتابته، وفيما كان يرى إليه مختلقاً مع كل كتابة، أدرك أن الوجود بعد الكتابة لا قبلها. لقد أدرك "التفكير" حول اللغة، ذلك الخيط السري الذي يربط اللغة بجذرها الأول، عندما بدأ الإنسان بالنطق، وأدرك أنه، عبر نطقه، كان يخلق ما ينطق به، ثم قاد "التفكير" حول اللغة إلى "التفكير" حول الكتابة. فبعد الانفصال الذي حدث بين الإشارة وبين ما تشير إليه، وهو ما يعبر عنه بفقدان الشفافية وشرخ الوحدة الثقافية للكون، انبثقت فكرة مفادها إن الكتابة ستعمل في الفراغ الحادث نتيجة ذلك الشرخ، ما يجعلنا نستكمل فكرة تودوروف من أن "التفكير" حول اللغة أصل كل ثقافة إنسانية، بفكرة إن "التفكير" حول الكتابة هو ما يمنح هذه الثقافة فاعليتها الوجودية أيضاً. الكتابة ستملأ، بشكل متواصل، ذلك الفراغ، وإذ إنها تفعل ذلك، فإنها تؤسس لوجود لم يكن قبلها. لقد وصلت ثقافة المنطقة والثقافة العربية إلى هذه النقطة. فبعد التفكير حول النص القرآني كبنية لغوية، وصلت إلى النقطة الأكثر حسما:ً وهي إن الثقافة لكي تكتمل وتنتج وجوداً معيناً، عليها أن تكون مكتوبة. وتحقق الأمر، وكتب العرب، فحققوا وجوداً كبيراً على مستوى الثقافات البشرية والوجود البشري. وقد وصل الأمر بابن عربي ليعلن دون تباطؤ: "الخلق كتابة". لكن الذي حدث أن تم تهميش النص الصوفي، وتشكلت بنية اجتماعية قائمة على الانشقاق لا الحوار. وحتى هذه اللحظة لم يُنظر إلى هذا النص على أنه جزء من نسيج الثقافة العربية، بل نظر إليه على أنه توجه آخر، عومل على أنه خارج عن/ وعلى البنية الثقافية العربية، ولهذا لم يتم البناء الثقافي عليه، وظلت الدراسات ذات الصلة به، إلا استثناءات نادرة، تقدمه كجزء منفصل. لذلك لم تتكون لدى العرب مرجعيات في اللغة والكتابة وأثرهما في التحقق الوجودي. من هنا فإنني أرى الدارسين، في العصر الحديث والمعاصر، يعودون إلى التراث من نافذة، وإلى المصادر الغربية من نافذة أخرى، الأمر الذي جعلهم : إما يغرقون في التراث ولا يعرفون كيف يخرجون منه، ما كوّن، عربياً، ثقافة الأموات، وإما يغرقون في الدراسات الغربية. وهذه الأخيرة، على أهميتها، تحتاج، حتى يمكن البناء الثقافي عليها، إلى إعادة صياغة حقيقية، وإلى تدقيق وتصويب كثير من المفاهيم التي أنتجت ضمن سياق معرفي آخر، قد يكون مختلفاً، بنسبة لا بأس بها، عن السياق المعرفي العربي. لقد قدم لنا تاريخ الأفكار،أدلة كبيرة على أن البناء الثقافي الحقيقي يبدأ من منطقة بعينها، مستفيداً من الثقافات الأخرى، وبصفة خاصة، من طريقتها في تبيئة المفاهيم وإدخالها في نسيج الثقافة المعنية. وذلك برغم التداخل الكبير بين تلك الأفكار والناتج عن الهجرات المستمرة التي تقوم بها. ثمة الكثير من الدراسات العربية التي طبقت المناهج الغربية الحديثة في معرض تأويلها وتفسيرها لحقل من حقول الثقافة العربية، التراثية على الأغلب، إلا أن ذلك، على أهميته، لم ينتج بنياناً ثقافياً خاصاً. بمعنى: ساهم في تفسير الخطاب، ولم يساهم في تشكيله. لقد سارت الثقافة العربية الحديثة حتى الآن في تفسير الخطاب، فيما المعول عليه: تشكيله.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية